صلاح السعدني... معجزة أن تحترم نفسك
هل يمكنك أن تكون فنّاناً أو مؤثّراً، من أي نوع، في المجال العام المصري، من دون إذن "أمني"؟ إذا كنّا نتحدّث عن مصر من 1952 إلى يومنا فالإجابة لا. هل يعني ذلك أن "كل" المتصدّرين أو المحمولين على أجنحة الذيوع والانتشار هم بالضرورة "أمنجية"؟ لا. تختلف درجات السيطرة وتتنوّع وتزيد وتنقص بحسب حاجات الأجهزة الأمنية، وبحسب قدراتها. فلا هي تحتاج أن تسيطر طوال الوقت، بالقدر نفسه، ولا هي تقدر، حال احتياجها، على هذه السيطرة الكلّية. لكن… تظل الدولة حاضرة في معادلة "الوصول" إلى الناس، بالقدر الذي يجعل من الإفلات منها، مع الاستمرار في النجاح والتأثير مهمة شبه مستحيلة.
ثمّة إكراهٌ آخر، لا يقلّ ثقلاً عن السلطة، هو "السوق"، فلو نجوتَ، لسببٍ ما، من وحش السلطة، فإن متطلّبات الإنتاج، وأوهامه عما يريده الجمهور، وحش أكثر افتراساً لأي فنانٍ يريد أن يحترم نفسه وجمهوره، خصوصاً إذا كان ممن يروْن أن دور الفن في بلد مأزوم أخطر من أن ينحصر في التسلية وحدها. فكيف السبيل إلى فنّان "ملتزم" بما يفكّر وبما يعتقد وبما يريد؟ أو على أقلّ تقدير، إلى فنان له رأي وكرامة؟
فعلها صلاح السعدني. والمدهش أننا لا نحتاج إلى التدليل، فثمّة إجماع حول منجزيْه، الشخصي والفني، وهو إجماعٌ نادر، في مجتمع مسمّم بالكراهيات والاحتقانات، ما يزيد الأمر حيرةً وصعوبةً، ويجعل من محاولة فهم "حالة صلاح السعدني" مَهمّة، هي الأخرى، شبه مستحيلة.
هل يتعلق الأمر بالحظ؟ بالسياق؟ بأيام صلاح السعدني وظروفه التي كانت أسهل من آخرين؟ العكس هو الصحيح. دفع السعدني ضريبة معارضة السلطة مرّتين، مرة له، حين وقّع على بيان المثقفين المصريين ضد حالة اللاحرب واللاسلم عام 1972، فحرمه أنور السادات من مسرح الدولة، ومن تلفزيون الدولة، ومن "سماح" الدولة له بالعمل، ثلاث سنوات. ومرّة حين عارض أخوه الأكبر محمود السعدني السادات، فزادت الجفوة بين النظام وآل السعدني، وفق المنطق العسكري "السيئة تعم".
لم يتراجع صلاح السعدني في عهد حسني مبارك عن إبداء آرائه، والتزامه خطّه الذي أراده، والذي يتّسق مع شخصيته. ومع ذلك، لم يتراجع فنّاناً مهمّاً ومؤثراً، يتعلق الأمر، في تقديري، بمدى "صدق" السعدني في تعبيره عن نفسه، فحتى "الموقف" صار مهنة، أو حيلة لغير الموهوبين، في تبرير أنفسهم، لكن "أبو كيفه" لم يتورّط يوما في "مسرحة" مواقفه، كان هادئاً بقدر ما كان واضحاً. يقول ما يريد لأنه يريد، لا لأن صاحباً يريد، أو شلّة تريد، أو جهة مانحة تريد.
يتحدّث صلاح السعدني في التسعينيات، وفي تلفزيون الدولة، عن نظرية "الشبهية" كما يسمّيها، فيقول إننا في مصر والعالم العربي ليس لدينا شيء حقيقي، كل شيء يشبه حقيقته... الدولة... المؤسّسات... وحتى كرة القدم. ويبدو مدهشاً حين يتحدّث عن الإخوان المسلمين، بعد ثورة يناير 2011، وفي مناخات فنية وثقافية رافضة لهم، ومتوجّسة منهم، فيقول إن الإخوان أصحاب تجربة نضالية في السياسة، وفنّية في المسرح المصري في الأربعينيات، وهو كلام غير دقيق، بالمناسبة، فالمقارنة بين إخوان حسن البنا، وإخوان خيرت الشاطر، ليست مقارنة بين شخصيْن فحسب، إنما بين زمنيْن، بين حركة دينية وسياسيّة كانت، رغم كل شيء، جزءاً من الحركة الوطنية المصرية، ثم صارت بديلاً عنها. لكن كلام السعدني في سياقه المأزوم يكشف عمّا هو أهم من صحة القياس، عن "صدق" السعدني وقدرته على قول ما يعتقد، ولو ضدّ تياره، وأصدقائه، ووسطه، فالسعدني الذي يصف نفسه بأنه "ناصري" (حوار مع صحيفة الأهالي" 14/2/1986)، هو نفسُه السعدني الذي رأى أن صعود الإخوان غير مقلق، وأن الفن المصري لن يتأثّر سلباً، رأى فقال، من دون خوف، ومن دون توازنات، والأهم: من دون صراخ أو مزايدة. قال كلمته ومضى. من هنا يمكننا فهمُه، وفهم تجربته، وفهم الإجماع، غير المسبوق، حول قيمته.