صراع الحكومات وأسابيع ليبيا الساخنة

22 اغسطس 2024
+ الخط -

مع تصاعد خلافات الليبيين بشأن الحلّ السلمي، تراكمت حِزمٌ من المشكلات أدّت إلى ضعف المؤسّسات وانقسامها. وخلال شهر أغسطس/ آب الجاري وحده، تواجه ليبيا أزمات عدّة، تعكس اتّجاهاتها تهديداً مباشراً لبقاء الدولة ووجود السلطة، فلم تعد تقتصر على تحرّك المجموعات المسلّحة، فقد وضعت النظام النقدي في مَهب الصراع أيضاً. وفي هذا السياق، يساعد النقاش بشأن مُكوّنات الأزمات، وبشأن مدى تراكم القدرات السياسية والمالية، في وقف الانهيار.

منذ بداية العام الجاري (2024)، وسّعت القيادة العامة نطاق مناوراتها حتّى حدود سرت، ولاحقاً، في أغسطس، وتحت دعوى تأمين الحدود، عزَّزت وجودها في غرب البلاد، ليكون مسرحُ تجميع القوات حول نطاق مدينة غدامس، بحيث صارت على مقربة من التماس مع المكونات العسكرية المنافسة في طرابلس، وبالقرب من الحدود مع الجزائر. وفي إجراء مضادّ، وتحت سلطة القائد الأعلى للجيش الليبي، اتخذ رئيس المجلس الرئاسي محمّد المنفي إجراءات لحشد الكتائب في مواجهة قوات القيادة العامة. وفي مستوى مدن غرب ليبيا، تسارعت التعبئة لتشمل كتائب مصراتة والزاوية، بجانب الجهاز الوطني للقوى المساندة. تضع هذه التحرّكات قوات ليبيا في خطوط مواجهة طويلة، ومع الاختناق السياسي، تتواجه القوى العسكرية لحكومَتي ليبيا في ساحات مفتوحة. فبداية من غات (عند الحدود مع الجزائر)، وانتهاءً بإعادة الانتشار والتموضع داخل العاصمة، يتشكّل المشهد القتالي في مساحة كبيرة في جنوب البلاد وغربها. وفي ظلّ اختلاف الولاءات داخل المُدن، يصعُب التعرّف إلى خطوط المعارك المُحتملة واتجاهاتها. في هذا السياق، تُعدّ اشتباكات حي تاجوراء في طرابلس من حالات المعارك مُتداخلة العوامل الاجتماعية والسياسية والجهوية. ولغياب قوّة مركزية وانهيار القدرة على ضبط سلوك المجموعات المسلّحة، تُوفّر هذه الأنماط أرضيةً ملائمةً للحروب المفتوحة.

ومع شِدَّة الاصطفاف العسكري، ساق تجمع قادة ثوار ليبيا في بيان 15 أغسطس (2024)، مُبرّرات تعبئة مسلَّحيه، وتنشيط المجالس العسكرية للمدن، قامت في معظمها على مناهضة الكيانات المؤسّسة على اتفاق الصخيرات (وقّع برعاية أممية عام 2015، بهدف إنهاء الحرب الأهلية الليبية الثانية المندلعة منذ 2014)، وتعليق انتخابات 2021. وبغضّ النظر عن فاعلية أو دور المجموعات المشمولة بهذا البيان، تواجه رغبة دوائر النفوذ المُصاحبة للحكومات المختلفة في الظهور طرفاً في الأزمة السياسية والأمنية، وخضوع مساحة كبيرة من البلاد لسيطرة قوات القيادة العامة للجيش الليبي. ولذلك، يبدو البحث عن موطئ قدم في الصراع القائم القاسم المشترك بين محاولات هذه المجموعات استعادة رونقها، بعد تدهور إمكاناتها منذ 2016.

على وقع التنافس العسكري وانقسام مجلس الدولة، شكّل التسابق التشريعي جانباً كبيراً من مجريات الأزمة الجارية

لا تبدو إعادة الانتشار ظاهرةً جديدةً في ليبيا، فمنذ اتفاق الصخيرات استمرّت المجموعات المسلّحة في تغيير مواقعها، وسعت إلى تقنين أوضاعها بهدف توسيع دائرة سيطرتها ونفوذها. بعد انتهاء معارك بنغازي في 2017، شهد غرب البلاد معاركَ عديدةً، بدأت بحرب طرابلس في 2018، ومحاولة قوات خليفة حفتر و"فاغنر" اقتحامها في 2019، لتكون الاشتباكات اللاحقة للدفاع عن العاصمة صراعاً على الأحياء والهيمنة على المؤسّسات، وحالياً يستعدّ العديد من الكيانات العسكرية والمسلّحين لبدء جولة معاركَ جديدةٍ، بجانب محاولات سلطة طرابلس تجميع حلفائها للوقوف وراء قرار تغيير مجلس إدارة المصرف المركزي.

وبشكل عام، يكشف تكرار اشتباكات طرابلس هشاشةَ الضبط السياسي والأمني، ليس لاحتفاظ جهاز دعم الاستقرار وقوات الردع بالاستقلال النسبي عن الحكومة، ولكن لتعدّد المجموعات المسلّحة في المنطقة الغربية، واختلاف أهدافها، وافتقارها الدعم الاجتماعي، وتشتّت ولاء مجموعات الإسلام السياسي. وتترافق هذه العيوب مع فرض قيود على تمويل المصرف المركزي حكومة طرابلس، فيما يَسهُل وصول حِزَم التمويل لمؤسّسات الشرق الليبي. تُمثل هذه التباينات فجوةَ التوافق في ليبيا، وتتصاعد الأزمة على وَقْع تلاشي دور الأحزاب وتسارع الاستقطاب الأمني والسياسي للاستحواذ على الثروة والسلطة.

وفي تزامن مع التغيرات العسكرية، شغلت الانتخابات الداخلية في المجلس الأعلى للدولة، في السادس من أغسطس/ آب الجاري، جانباً من الجدل السياسي، فعلى خلاف السنوات السابقة شهدت نزاعاً على النتائج حمل في طيّاته مؤشراً واضحاً إلى انقسام حادّ، بدت ملامحه في تأكيد صلاحياته الاستشارية تجاه المجلسين الرئاسي والنواب. وتكمن الدلالة الرئيسية في تراجع مُؤيّدي حكومة الوحدة في مجلس الدولة، ويعود خالد المشري إلى المنافسة القوية لاستعادة زخم التحالف مع مجلس النواب، والتقارب مع قراراته. سوف يقود هذا التغير إلى تعزيز الاتجاهات المُؤيّدة لتشكيل حكومة جديدة، فبمراجعة مواقف مجلس الدولة في السنوات السابقة مدعوماً بالحزب الديمقراطي، يمكن ملاحظة تنامي المواقفَ المؤيدة للانفتاح على الأطراف السياسية كلّها، في شرق البلاد وغربها.

وعلى وقع التنافس العسكري وانقسام مجلس الدولة، شكّل التسابق التشريعي جانباً كبيراً من مجريات الأزمة الجارية، فعلى مدى ما يقرب من أسبوعَين صدرت مجموعة قوانين وقرارات من شأنها إعادة هيكلة العلاقة بين المؤسّسات ونقل الصلاحيات. بدأت هذه السلسلة بإصدار المجلس الرئاسي قرارَ تشكيل "المفوضية الوطنية للاستفتاء والاستعلام الوطني" في 11 أغسطس 2024، لتكون جهةً بديلةً للمفوضية الوطنية للانتخابات، فتتولى ما يتعلق بالاستفتاء حتّى إعلان نتائجه، وحسب قرار تأسيسها (79/ 2024)، تستمدّ المفوضية الجديدة مشروعيتها من المجلس الرئاسي، ولا يقتصر دورها على تنفيذ الاستفتاء، فليس هناك ما يمنع إشرافها على الانتخابات. واستكمل المجلس قراراته بعزل مجلس إدارة المصرف المركزي في 12 أغسطس 2024، وتشكيل لجنةٍ لاستلام الإدارة الجديدة، مستنداً في قراراته إلى قرار سابق لمجلس النواب (3/ 2018)، لتعيين محمد الشكري مُحافظاً جديداً، وتسليمه مهام عمله من دون النظر إلى الجدل القانوني. من هذه الوجهة، يمكن النظر إلى قرار المجلس الرئاسي بعزل الصديق الكبير محاولة لاصطفاف مؤسّسات المرحلة الانتقالية وفق نتائج اجتماعات جنيف في فبراير/ شباط 2021، في مقابل المؤسّسات المُنتخَبة ليبياً في عامَي 2012 و2014، وتعديلاتها لاحقاً في 2016، بظهور المجلس الأعلى للدولة.

لا تساعد البنية القانونية على توفير الحدّ الأدنى لتسوية الخلافات سلمياً

وردّاً على هذه الحِزَم من القرارات والتصرّفات، عمل مجلس النواب لاستعادة منصب القائد الأعلى للجيش الليبي (13 أغسطس/ آب 2024)، ونقلها إلى رئيس المجلس عقيلة صالح، وسحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية، ولاحقاً (15 أغسطس)، أوقف تكليف محمد الشكري محافظاً للمصرف المركزي لانتهاء مدّة التكليف، ولعدم استلامه المنصب. وبعدها بثلاثة أيام، استكمل هذه الإجراءات باستمرار تكليف الصديق الكبير. وفي هذه الجزئية، جاء موقف مجلس الدولة متوافقاً عندما اعتبر تصرّفَ المجلس الرئاسي متجاوزاً للاتفاق السياسي ومقرّرات لجنة الحوار في 2021، لتشكّل هذه التوجّهات الأرضية لأن تكون حكومة شرق ليبيا الحكومة المؤقتة حتّى تشكيل أخرى تكون مهمتها الإعداد للانتخابات. في أيّ حال، ترتبط قرارات مجلس النواب بإزالة القيود أمام تحرّك وحدات "القيادة العامة" في غرب البلاد والحفاظ على صلاحياته في إقرار التشريعات الانتخابية وتشكيل السُلطة النقدية.

في المستوى الخارجي، لا يلقى النزاع على المصرف المركزي قبولاً من دول عديدة، وباعتبار دعم البعثة الدولية للوضع القائم ممثلاً للاتجاه العام في الحفاظ على الاستقرار المالي وتمتّعه بحرّية التحويل النقدي. ورغم الطبيعة الشكلية لموقف الأمم المتّحدة، تكمن أهمّيته في أنّه ركن أساس في الاعتراف الدولي بتصرّفات الحُكم المؤقّت في ليبيا، وهو ما يمُثّل المُعادل للأساس القانوني لحكومة الوحدة الوطنية، إذ يمنح إدارة المصرف الحالية ميزة قانونية ضدّ محاولات إزاحتها. وفي السياق، تتقارب مواقف مصر وتركيا والجزائر من تجنّب الصراع المسلّح، ومن الحفاظ على استقرار المصرف المركزي. ورغم تقدّم التفاهمات التركية المصرية على الانفتاح على جانبي المؤسّسات الليبية، ظلّ الاختلاف على مشروعية حكومة الوحدة الوطنية مستمرّاً، كما يتزايد قلق الدول الثلاث من تدهور الوضع الأمني وعدم الاطمئنان لبعض الأطراف الليبية.

مع غياب خريطة انتقال للانتخابات، تعمل البيئة الحالية على بناء معوّقات الاستقرار وتسارع تفكيك المؤسّسات

وبشكل عام، لا تساعد البنية القانونية على توفير الحدّ الأدنى لتسوية الخلافات سلمياً، فبجانب غموض الصلاحيات، تتنافس المؤسّسات على إصدار قوانين تُمكِّنها من ترويج روايتها القانونية. وبغضّ النظر عن القبول بمرجعية الإعلان الدستوري المؤقّت، لا تزال الوثائق الأخرى محلَّ خلاف عميق. ومع تحرّك لجنة استلام المصرف المركزي، يقع النظام النقدي في قلب العراك الدائر بين المؤسّسات الليبية، ليشكلّ آخر محطّة لتهديد بقاء الدولة، إذ يُؤدّي استمرار النزاع حول السلطة النقدية إلى فقد الشخصية الاعتبارية في المبادلات المالية الدولية، فتتعرّض لتجميد المعاملات مع البنوك المركزية في الدول الأخرى، وما يترتب عليها من وقف تحويلات العوائد الخارجية.

ظلّت هذه الوضعية محلَّ خلاف بين مجلس النواب ومجلسي الدولة والرئاسي. ولذلك، تبدو ظاهرة الخطف والتهديد بالاغتيال توجّهاً لإكراه المسؤولين للتخلّي عن مواقعهم، فبجانب خطف أحد موظفي المصرف المركزي، كانت هناك محاولةٌ لخطف أحد أعضاء مجلس الدولة. ظلّت هذه الظاهرة (مع حوادث الاغتيال في سَنتي 2013 و2014 لاستبدال المؤتمر الوطني بانتخابات تشريعية)، تحول دون استقرار البلاد، ومصدرَ قلقٍ لدول الجوار.

تتشكّل الأزمة الحالية في بيئة رخوة، لا تتوفّر للدولة فيها قوّة صلبة يمكنها فرض احترام الحدّ الأدنى من القانون أو توفير إطارٍ للتشاور السياسي، فمن الناحية العسكرية، تتّسم خريطة المُكوّنات الرسمية، وغيرها، بشبكةٍ منفرطةٍ من التشكيلات، لا يتمتع أيٌ منها بالقدرة على الحسم، وهي في معظمها تركّز على الدفاع عن المكتسبات أكثر من اهتمامها ببناء نظام جديد، ولذلك تلقى ظروف اندلاع معارك فرصة كبيرة مقارنة بالرغبة في تغيير الوضعية السياسية. ومع غياب خريطة انتقال للانتخابات، تعمل البيئة الحالية على بناء معوّقات الاستقرار وتسارع تفكيك المؤسّسات.

5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .