الخلافات الفكرية والسياسية بين الإسلاميين في ليبيا
على مدى المرحلة الانتقالية في ليبيا، قدّمت التياراتُ الدينية تصوّراتٍ متباينة تجاه السلطة والدولة. وتُشيرُ خبرات الإخوان المسلمين، التيارات الجهادية والسلفية المدخلية، إلى حالاتِ صعودٍ وتراجع، ارتبطتْ بعوامل تنظيميةٍ وفكريةٍ، ما يثيرُ النقاش بشأن اتجاهات التأثير المستقبلية، حيث تبدو أهمية تناول سياسات الإسلاميين، ومدى مساهمتها في التضامن في بناءِ الدولة، وتساعد مناقشة التغيّر في فاعليةِ الإسلاميين على مدى سنوات ثورة فبراير (2011) في الاقتراب من القدرةِ على سدّ الفراغ الناجم عن تآكل الدولة والمساهمة في ضبطِ العلاقة بين المكوّنات السياسية.
وقد شكّل تَغيّر الحالة التنظيمية أهم مسارات التقدّم والتراجع في دينامياتِ الإسلاميين، ويساعد تحليل التفاعلات الداخلية وملامح التركيبة التنظيمية في الاقتراب من مدى المرونة والقدرة على التكيّف مع التغيّرات السياسية.
جماعة الإخوان المسلمين ومكوّناتها
وبجانب الظهور العلني لحركة الإخوان المسلمين الليبية في 2011، تشكّل حزب العدالة والبناء خليطاً من أعضاء الجماعة وإسلاميين مستقلين، ليطرحَ مساريْن لتحليلِ مسيرة الحزب؛ تأثير اختلاف مرجعية العضوية على التماسك الداخلي وحدود العلاقة بين الجماعة والحزب. في هذا السياق، دخلت الجماعة في موجةِ استقالاتٍ بدأها رئيس مجلس الدولة، خالد المشري، في 26 يناير/ كانون الثاني 2019، كما استقالَ فرع مدينة الزاوية، 13 أغسطس/ آب 2020، استجابةً لتسهيلِ المسار الانتقالي، وصولاً إلى الدولةِ المدنية. تقدّم أعضاء "الإخوان المسلمين" في مصراتة، 21 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، باستقالةٍ جماعية، تمهيداً للخروج من المشهد السياسي، وإثبات أنّ الجماعة ليست عقبة في طريق الثورة. ووفق البيان، تأسّس الموقف على مراجعاتٍ وتقييماتٍ أجرتها الجماعة في 2015 بشأن مستقبل التنظيم وتفضيل المصلحة العليا للوطن، والخروج من مماطلةِ القيادة في تنفيذ المراجعات. تشاركت البيانات الثلاثة في الربطِ ما بين الاستقالة وفرصة تصحيح المسار السياسي، ما يعكس اتّساع الفروق ما بين مكوّنات "الإخوان المسلمين"، بطريقةٍ أقرب إلى المبادرة والالتزام بالمُراجعات الداخلية.
وبعد مشوارٍ من التململِ الداخلي، استجابتْ الجماعة لمراجعاتِ المؤتمر العام العاشر، وتحوّلت إلى جمعيةٍ أهلية تحت اسم "الإحياء والتجديد"، مايو/ أيار 2021، ولكن تحت ضغط حملات التشويه المستمرّة منذ حقبة معمر القذافي، من دون التخلّي عن أهداف الجماعة، وفي الثاني من مايو/ أيار 2021، اتّخذت الجماعة قرارَ التحوّل إلى جمعيةٍ أهلية، مؤسِّسةً موقفها على خدمةِ المجتمع من منظورِ العمل العام لأجل الإصلاح الاجتماعي، كما رأت أنّ حملات التشويه المستمرّة عشر سنوات كافية لترك الساحة السياسية، على أن يقتصر نشاطها داخل ليبيا. ورغم الجدل بشأن تبعيّتها لجماعة الإخوان المسلمين العالمية، لم يتّضح وجود قطيعة مع فروع الجماعة الأخرى، وخصوصاً مع وجودِ إشاراتٍ إلى استمرارِ الجمعية على أهداف الجماعة، ليكون التحوّل شكلياً، فقد واجهتْ الجماعة بيئةً غير مُواتية للاستمرار في الظهور تحت اسم جماعة الإخوان المسلمين. ولذلك تظهر تصرّفات المنتمين للجمعية امتداداً للنهج السابق في نُدرة البيانات عن شاغلي المواقع الإدارية.
شكّل تَغيّر الحالة التنظيمية أهم مسارات التقدّم والتراجع في دينامياتِ الإسلاميين
وفي سياقِ التحوّلات الداخلية، ظهرتْ هشاشة "العدالة والبناء" مع تغيّر الوضع السياسي، وتحوّل الجماعة إلى جمعيةٍ أهلية. تتابعتْ التقلبات الداخلية على مرحلتين؛ كانت الأولى في الاختلاف على مسارِ اتفاق الصخيرات في 2015، وترتّب عليها انسحاب أعضاء عديدين. أمّا الثانية، فكانت بعد انعقاد المؤتمر العام للحزب في 19 يونيو/ حزيران 2021، حيث ظهرت موجة استقالاتٍ من المناصب العليا، لتمهّدَ الطريق لتأسيسِ حزبٍ جديد، جرى إشهاره في أكتوبر/ تشرين الأول 2021 تحت اسم الحزب الديمقراطي. وتعكس هذه الخطوات انقساماً مُركّباً، فقد تلازمت باستقالاتٍ من الجماعة والحزب، بحيث يمكن القول إنّ السنوات السابقة لم تعمل على دعمِ التماسك الداخلي لحزب لعدالة والبناء. وإزاء هذه الوضعية، تجنّب الحزب الدخول في صدامٍ مع حكومة الوحدة وتيار المفتي، أو الجماعات المسلحة.
ونظراً إلى شيوعِ الاستقالات، راجعتْ حركة الإخوان العلاقة بين الجماعة والحزب على أساس تقسيم العمل أو الفصل الوظيفي، لتقومَ الفلسفة التنظيمية على النظر إلى "الجانب السياسي نظرة المتفرج" من دون تبنّي رأي واضح، وأرجعت موقفها إلى الحياد طبقاً لنظم الجمعيات الأهلية والرغبة في الخروج من تعقيدِ العمل السياسي لكثرة متغيّراته. وتعتبر حركة الإخوان الفصل بين الدعوي والسياسي خطوةً لإعادة تعريف دورها. ووضع "الميثاق"، النظام الأساسي لجمعية الإحياء والتجديد، إطار "التحوّل إلى مؤسّسة حضارية والبناء الاجتماعي". لا تتعلّق التوجّهات الجديدة بالانسلاخ عن "الإخوان المسلمين"، ولكن بتقديم صيغة مُخفّفة لمفهومِ الشمولية، من وجهةِ تقسيم العمل والابتعاد عن قضايا الصراع والتغيّرات السريعة والتركيز على الحاجات الإصلاحية والأخلاقية، بحيث تكون نسقاً مؤسّساً لعلاقاتها الداخلية، بحيث يكون المجال السياسي هامشياً، بقدر الحاجة لبقاء الجمعية مؤسّسة اجتماعية. وتفويض ما تبقّى منه للحزب السياسي، ليقتصرَ دورها في التنبيه على الإصلاح ومكافحة الفساد.
على أيّة حال، يصعُب تحييد تأثير المنظمات الأصلية وتلك المنبثقة عنها، حيث يتداخلُ ميراث الخبرة التنظيمية والعلاقات الشبكية. وفي هذه الجزئية، تبدو علاقة التأثير المتبادل بين حركة الإخوان وحزب العدالة والبناء طبيعية وتلقائية. وتعكس خريطة المرشّحين لرئاسة الحزب مدى التداخل بين الجماعة والحزب، بحيث تتراجع فرصة ترشيح مستقلّين، فيما يحتكر المنتمون للإخوان القدرة والرغبة في الترشيح. ورغم تحوّل الجماعة لجمعية، ظلّ وجود الإخوان المسلمين مُهيمناً على إدراكِ السياسيين، فبعد سنة من تحوّلها، أشار رئيس الحكومة، عبد الحميد الدبيبة، إلى دور الجماعة في زعزعةِ حُكمه، ما اعتبرته الجمعية نوعاً من تحميل المسؤولية عن كلّ المشكلات.
لم يكن التحوّل مبادرة تصحيحية، بل استجابة للضغوط الداخلية والخارجية، فقد تلازمت حالات الانشقاق مع ظهورِ مشكلاتِ المؤسّسية، فلم يكن هناك خريطة واضحة لأوراق الحزب الرسمية أو تسليم لملفات العلاقات السياسية والمالية، باعتبارها رأس المال السياسي للحزب، في وقتٍ كان يتم فيه الإعداد لتنظيم آخر، ترتّبت عليها حالات انشقاق محدودة.
السلفية الجهادية
تشيرُ نتائج الانتخابات في 2012 إلى ضعفِ قدرة المجال السياسي في ليبيا على تكوين أحزاب، فبينما شغل كثيرون من أعضاء الجماعة الإسلامية مقاعد المستقلين، لم تحقّق الأحزاب المنبثقة عنها نتائج يُعتدّ بها، ما يشير إلى فقرِ تجربةِ الأحزاب الهرمية، فيما تتميّز نسبياً في الخبرات الشبكية والعنقودية والتي تمثّل ميراثاً من العمل التنظيمي على مدى المشاركة في التنظيمات الجهادية. تمّت ترجمة التوّجهات الجهادية في ظهورِ مجموعات "أنصار الشريعة"، "شورى بنغازي" و"مجلس شورى درنة" ثم "سرايا الدفاع عن بنغازي"، لينتهي مشوارها بالنزوح الفردي لغرب ليبيا والانضواء تحت مسلّحي المدن.
وفي الفترة نفسها، ساعدَ صعود الدور السياسي للمفتي، الصادق الغرياني، عندما صار مستشاراً غير رسمي لرئيس المؤتمر الوطني، نوري أبو سهمين، على ملء الفراغ، بالحديث عن حماية الثورة، ليكون مظلّةً لإسلاميين كثيرين في وضع ملامح للحوار الوطني ودور الأمم المتحدة. وقد تطوّرت هذه الأرضية حتى تكوّن تيار "يا بلادي" تعبيراً عن رابطة بين الإسلاميين المستقلين.. وفي اتجاهٍ آخر، تقاربتْ أحزاب "الجماعة الإسلامية" مع أفكار المفتي، ليتبلور إطار ما يُعرف بـ"تيار المفتي"، للدلالة على مظلّةٍ لتعويض حالة التفكّك التي تمرّ بها المجموعات المنضوية تحت الأشكال التنظيمية للسلفية الجهادية. وحتى حرب طرابلس في 2014، ظلّت هذه الصيغة تُشكل الإطار التجميعي لكلّ الأطر الجهادية، وتطوّرت لاحقاً مع تكوين حكومة الإنقاذ الوطني ثم مرحلة التضامن في مواجهة اللواء المتمرّد، خليفة حفتر، وحلفائه الإقليميين، واتخذت من دار الإفتاء وقناة "التناصح" منصّة لتوضيح موقفها إزاء القضايا المختلفة.
تشيرُ نتائج الانتخابات في 2012 إلى ضعفِ قدرة المجال السياسي في ليبيا على تكوين أحزاب
وبجانب إفساح المجال لمساهماتِ السلفية الجهادية، ونشر آراء المفتي على صفحة جمعية "الإحياء والتجديد"، استمدَّ التيار قوّته من حاجةِ حكومة الوحدة الوطنية للشرعية والشعبية. ويحاول عبد الحميد الدبيبة منذ سنوات الاستناد إلى مشروعية دينية عبر تقاربه مع الصادق الغرياني، أبريل/ نيسان 2022، بوصفه واحداً من مصادر الشرعية أو تعويضاً عن افتقادِ ليبيا للمؤسّسية السياسية والدينية، كما يفقد سلطته على شرق ليبيا لوجود مؤسّسة إفتاء مناظرة، لكنها لا تتمتّع بنفوذٍ مُماثل. وهذا ما يفسّر جزئياً ندرة انتقادات المفتي الحكومة، فيما يدخل في مفاصلةٍ سياسية ودينية مع تكوينات سياسية عديدة في شرق ليبيا وغربها، وبجانب خلافه الواضح مع خليفة حفتر والسلفية المدخلية، هناك خلاف مع الإخوان المسلمين وحزبي العدالة والبناء والحزب الديمقراطي.
تيار السلفيّة المدخليّة
وتكتمل الديناميات الإسلاميّة مع صعودِ السلفيّة المدخلية ضمن الخريطة الفاعلة في السياسة الليبية، حيث شهدت تطوّرات متسارعة منذ نهاية حقبة معمر القذافي، فقد ظهرت لملء الفراغ في مقابل ظهور الإخوان المسلمين ضمن مشروع ليبيا الغد. ومنذ بدء الحرب الأهلية في 2014، اتجهت للتغلّغل في وزارة الأوقاف، وهي الأسرع اندماجاً في السلطات المحلية والعسكرية للحكومتين في شرق وغرب البلاد، لتكون الأكثر تأثيراً من بين الإسلاميين في السياسة الليبية.
لا تبدو المجموعات السلفية تنظيماً تقليدياً، فهي أقرب إلى مجموعاتٍ شبكية، تستمدُ تماسكها من فتاوى الشيخ، ربيع المدخلي، مُرشداً دينياَ وسياسياً، ما جعلها أكثر مرونة في التعامل مع الانقسام السياسي. فلم ينشغل المداخلة بخلافات الحكومتين، بقدر الاهتمام بتوطيد المكانة السياسية والأمنية عبر الالتحاق بالمؤسّسات على الجانبين، ما يعكس سيولة أو غموض الأهداف. فعلى الرغم من اشتعال المعارك على طرابلس، انشغلت الكتائب السلفية بالاندماج في الجيش الليبي (القيادة العامة)، كما سعت قوات الردع إلى توسيع دورها على مستوى المؤسّسات المهمة في العاصمة، لتقومَ بدور استعادة النظام في المؤسّسات المحلية. وتحت هذه الوضعية، تمكّن المداخلة من تثبيتِ دورهم الأمني والديني على مستوى البلاد، ليتصاعد دورُهم في أثناء المعارك حول العاصمة في أغسطس/ آب 2018، وحرب 2019 - 2020.، لكنها فقدت وجودها في شرق ليبيا.
ومع اختلاف التَشَكّل التنظيمي، تظهر عوامل القوة والضعف، فمن جهةٍ، يعملُ الإضعاف المتبادل ما بين "الإخوان" والسلفية الجهادية على إفساح الطريق أمام المدخلية للتغلغل في مؤسّسات الدولة. وفيما دَعمت الانقسامات المتتالية تراجع "الإخوان المسلمين"، تُوفّر مجموعاتُ السلفية الجهادية مظلّةً مفتوحةً لبعض الإسلاميين المستقلين الخارجين من حزب العدالة والبناء. ومن جهةٍ أخرى، يساهم انتشار المداخلة على جانبي الحكومتين في زيادةِ الفرصة لطرحهم بديلاً يُغطي على انحسارِ الإسلام السياسي، نظراً لارتفاع الطلب على مساهماتها في الصراع الدائر، ما يُضفي مزيداً من القوّة على أيديولوجيةٍ محافظة.
تبادلت أطراف الإسلاميين في ليبيا الاتهام بالتطرّف والإرهاب، ولم يقتصر الأمر على الخلاف الثقافي، بل امتدّ إلى القمع والانتهاك الجسدي
وعلى الرغم من تلاقي الإسلاميين والمداخلة على معاداةِ تنظيم الدولة الإسلامية، تنامتْ الخلافات بين المجموعات الثلاث، لتصيرَ واحدةً من المعضلات الليبية، حيث تتكوّن مصفوفة صراع ثلاثي الاتجاه، فقد تبادلت أطراف الإسلاميين الاتهام بالتطرّف والإرهاب، تحت أرضيةٍ عدوانية، لا تقتصر على الخلاف الثقافي ونشر الأفكار المُغذيّة للخلاف، بل تمتدّ إلى القمع والانتهاك الجسدي، مستخدمين مؤسّسات الدولة ووسائل الاتصال المفتوحة، لتعمل على تنامي بناء مصفوفة الصراع بين الجماعات الدينية.
وبينما يبتعدُ المداخلة عن نقاشِ المشكلات اليوميّة، شكّل الموقف من مقترحات البعثة الأممية للحوار السياسي (2015) أرضية الانقسام بين الإسلاميين. تسبّبت التحضيرات لاتفاق الصخيرات في تصاعد الخلاف بين "العدالة والبناء" والمجالس الثورية والعسكرية لمدن غرب ليبيا. ولاحقاً، تبنّى الحزب الديمقراطي ضرورة إجراء الانتخابات مؤسّساً موقفه على ضرورة وجود الدولة واحتكارها للسلاح، فيما تحفّظ العدالة والبناء على القوانين الانتخابية، ليكون موقفه متقارباً مع تيار دار الإفتاء، ما يعكسُ تشتّت الموقف السياسي.
وبتصنيفها مؤسّسة محايدة، ينظرُ الحزب الديمقراطي، 19 يناير/ كانون الثاني 2022، لتدخل "دار الإفتاء" السياسي نوعاً من "الوصاية" على ثورة فبراير، حيث لا تحتمل الأحداث الجارية التصنيف تحت ثنائيات الحلال والحرام أو الحق والباطل، فطبيعةُ العمل السياسي تقديريّة على أساس نسبية المصالح والمفاسد، والأولويات والإكراهات، كما في حالات اتفاق الصخيرات أو الدعوة إلى التظاهر أو تحريم زيارة مسؤول لدولة على خلاف مع حكومة طرابلس.
تصوّرات دار الإفتاء والسلفية الجهادية
تلعبُ دار الإفتاء دوراً مهماً في تشكيل الوعي الأيديولوجي للسلفية الجهادية، وتقديمها تيّاراً تحرّرياً، فمن خلال تصدّيها للشؤون العامة، تطرحُ تأويلات للشريعة في الشأن السياسي، وقد اكتسبت هذه المكانة مع اندلاع ثورة فبراير (2011) عندما ساهم المفتي الصادق الغرياني في وضح ملامح خطاب المحتجّين تجاه إقرار العزل السياسي، المصالحة الوطنية، وعقد الحوار السياسي تحت مظلّةٍ وطنيةٍ مستقلة، ولذلك اعتبر اتفاق الصخيرات تأسيساً للفساد وتردّي الدولة، ودعا أيضًا لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، قوات "الردع الخاصة"، والقيادات صنيعة الاستخبارات السعودية.
ووفق اعتبار دار الإفتاء حكومة الشرق غير شرعية، تنتفي عنها صلاحية طبع العملة أو عقد اتفاقيات عسكرية مع أطراف خارجية، 14 مايو/ أيار 2024. ولذلك، اعتبر التدخّل الروسي عدواناً واحتلالاً من دولةٍ كافرةٍ، تجب مقاومته بالجهاد الدفاعي. كما يضع بعض الدول العربية تحت تصنيف دول مُعادية، لا يجوز التجارة معها، ويشير بشكلٍ متكرّر إلى كلٍّ من الإمارات والأردن ومصر.
تلعب دار الإفتاء دوراً مهماً في تشكيل الوعي الأيديولوجي للسلفية الجهادية، وتقديمها تيّاراً تحرّرياً
ووفق هذا النهج، يتقاربُ تيار "يا بلادي" مع الأرضيّةِ الجهادية، وتقوم مقولاته على ثلاثة مكوّنات، 10 يناير/ كانون الثاني 2023؛ شمول ثورة فبراير المجتمع، تنوّع الرأي وعَلم الاستقلال. وفي هذا السياق، يصنّف مرحلة معمّر القذافي خارج الروح الوطنية، لتجاوزها ثوابت الدستور والعَلَم. ووفق هذا التحديد، يُعتبر العدل أرضية مشتركة للمصالحة الوطنية وبناء الدولة. وتمديداً لمنهج المفتي، اهتم تيار "يا بلادي" بالقضايا الخارجية، حيث برّر نشأته بمواجهة التهديد الخارجي ورفض انتهاك السيادة، ثمّ مواجهة الفساد والانقلاب، وكان أقلّ رغبة في التعاون مع شبكة الأحزاب الليبية، 15 فبراير/ شباط 2023، لانخفاض فاعلية أحزابه الثمانية في تكوين رؤية للحل السياسي ومحدودية تأثيرها.
ومع اندلاع حرب غزّة، اتضحت ملامح فتاوى مفتي ليبيا، 29 مارس/ آذار 2024، فقد اعتبر اقتحام معابر غزّة والضفة الغربية فريضة عين على المسلمين. ولذلك، صنّف مانعي الوصول إلى المعابر في مصر والأردن صهاينة. لا تبدو المشكلة في غموضِ آليات الفتوى بقدر تصريحها بالخروج على الحكومة من دون ضمانات واضحة أو التحوّط ضدّ الفوضى. فقد جاءت خالية من السياقات الإقليمية والداخلية في كلّ دولة. وبغضّ النظر عن الجدل حول الاختصاص المكاني، لم تتمكن دار الإفتاء من بسط ولايتها على شرق ليبيا في رؤية الأهلة في رمضان الفائت، وبالتالي، فإنّ شمول الفتوى لجغرافيا ومصالح أخرين،29 مارس/ آذار 2024، كان يتطلّب تبرير حالة الطلب والإلزام بالخروج. وبغضّ النظر عن قيام هذه التطلّعات على خلفية الأممية الإسلامية، فإنها تعكس جانباً من الخلاف السياسي أكثر منها رأياً علمياً، فلم تستوف دراسة شروط الاستطاعة وترجيح المصلحة في تركيبة سياسية واقتصادية مُعقدة، لتكون دعوة للتمرّد والثورة على الطغاة دون التقيّد بحدودِ الدولة.
اتجاهات السلفية المدخلية
بشكلٍ عام، لا يسعى المداخلة إلى وضع نظريةٍ للدولة، فهم أكثر انشغالاً بمجريات الوضع السياسي. وتُفسّر أفكار الخضوع لولي الأمر قابلية المداخلة للتكيّف مع السلطة القائمة والترابط معها، لتتشكّل بيئة مناسبة للنمو السريع منذ حقبة معمّر القذافي، وزادت شعبويتها في السنوات اللاحقة لثورة فبراير، وخصوصاً بعد اندلاع الحرب الأهلية في 2014. ورغم استقرار هذه القاعدة الفكرية، فإنّ انتشار دعاة المداخلة على مساجد ليبيا وتصاعد قدرة "الردع الخاصة" على توسيع استقلالها عن الحكومة لتغَيّر في القناعاتِ الإيديولوجية تجاه الخضوع للسلطة والخروج من حالةِ المُهادنة بتوسيع نفوذها على حساب الحكومة في طرابلس، كما يشكلون مكوّناً مهماً في الجيش الوطني لدورهم في معركة استعادة بنغازي في 2015. تفسح هذه التغيّرات الطريق أمام مراجعة رفض الديمقراطية والقبول بالمشاركة في التصويت والانتقال من وضعيةِ جماعة الضغط إلى المشاركة المباشرة في الشؤون العامة، ما يمثل تغيّراً هيكلياً في تركيبةِ الناخبين ونتائج الانتخابات.
ومع تتابع الاشتباكات المسلحة والحروب الأهلية، زاد تغلغل المداخلة في القطاعين، الأمني والعسكري، على جانبي الحكومتين، ما وضعهم في ميزة نسبية مُقارنة بالتيارات الأخرى. وبينما يسودُ المذهب المالكي في ليبيا، يمثل انتشار المداخلة مصدر خلاف على هُويّة الدولة، ما يثير مخاوف متنامية بسبب خلاف الأيديولوجيا بين التيارات المختلفة، سواء الجهادية أو الإباضية أو المالكية.
تُفسّر أفكار الخضوع لولي الأمر قابلية المداخلة للتكيّف مع السلطة القائمة والترابط معها
أرست هذه الحالة مناخَ التنافر بين مجموعات السلفية الجهادية والإخوان المسلمين، لتعكسَ التناقضات موقفاً غير متجانس بشأن طبيعة النظام السياسي أو الصراع المسلّح. وبدا التشتّت واضحاً، في انحسارِ النفوذ في المؤسّسات، فقد ساهمت التقلّبات السياسية في تحويل نفوذهم لخدمةِ الفاعلين الجدد المصاحبين للحكومات الانتقالية.
اتجاهات التأثير السياسي
وفي السنواتِ الأخيرة، شهدتْ الخريطة السياسية تغيّرات في نفوذِ الإسلاميين. وبينما شكّلت مجموعات السلفية الجهادية والإخوان المسلمين أهم الديناميات في مرحلة "المؤتمر الوطني"، ساهمتْ الانقسامات والخلافات الفكرية اللاحقة في تبعثر نفوذهم، وصارَ نمطاً من العلاقات العامة. ومع وقف إطلاق النار في 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2011، تضافر "الإخوان" والسلفية الجهادية في تبنّي ثورة فبراير والدفاع عنها، وقد وفّرت نتائج انتخابات المؤتمر الوطني فرصةً للتحالف بين العدالة والبناء (28 مقعداً)، الجبهة الوطنية (ثلاثة مقاعد) والمستقلين في كتلة "الوفاء للشهداء" ليتمكّنوا من اختيار رئيس الجهة التشريعية، والتصدّي لتطلع "تحالف القوى الوطنية" ترجمة أكثريته البرلمانية (86 مقعداً لمواقع سياسية، ليتحوّل التنافس لتكسير المؤسسات الانتقالية).
وقد استمرّ تحالف الإسلاميين حتى مراحل إعداد الاتفاق السياسي في 2015، لكنه انتهى مع الخلاف حول ملاءمة الاتفاق السياسي لتحقيق أهداف الثورة. وبينما تمَسّك "العدالة والبناء" بإصدار الاتفاق، انصرفت حركة الإخوان وأنصار السلفية الجهادية إلى استئنافِ النضال ضدّ "الثورة المضادّة" وأنصار الجماهيرية. لتبدأ مرحلة جديدة من التراجع بسبب الخلاف على الأولويات السياسية، لتنتهي بتراجع جماعي لتيار الإسلام السياسي. في هذه الأجواء، تبنّى الحزب الديمقراطي آراء تقوم على الانفتاح على حكومة شرق ليبيا، تقليل نفوذ المجموعات المسلحة لإفساح الطريق أمام الأحزاب والتعاون مع دول الجوار.
وقد رغب تيارا العدالة والبناء والمفتي في تجنّب الصدام مع حكومة غرب ليبيا، وكان هذا واضحاً في تحميل وزيرة الخارجية السابقة، نجلاء المنقوش، مسؤولية اللقاء مع وزير إسرائيلي، والتلاقي على رفض قوانين الانتخابات وتوسيع المناقشات حولها. كما اتجه المفتي إلى إقرار تصرّفات المكوّنات العسكرية التابعة للحكومة، تأييدِا القوّة المشتركة، من دون توضيح المعايير التي استند إليها في التمييز بين المكوّنات الليبية، سوى إشارة إلى معيار المكوّن الوطني وعدم استنادها لعوامل خارجية، من دون سرد مؤشّرات يمكن الاستئناس إليها في تقييم مدى استقلالية المؤسّسات.
تسبّب تراجع وهج الإخوان المسلمين في حدوث انتقال نحو تيار السلفية الجهادية
على أيّة حال، تكشف اشتباكات طرابلس عن محدوديةِ تأثير أحزاب الإسلام السياسي، فيقتصر دورهم على مناشدةِ المتنفذين في الأحياء للتدخّل لوقفِ إطلاق النار واتخاذ التدابير لحماية المدنيين، فيما جاء بيان الحزب الديمقراطي أكثر تحديداً للمشكلة، عندما ربط الاشتباكات بدور القيادات الأمنية والعسكرية وتباطؤ البعثة الدولية. وفي ظلّ تشرذم الكيانات السياسية والعسكرية، لا تبدو لقاءات مسؤولي الأحزاب مع الممثلين الأجانب ذات أهمية، فقد بدت الاجتماعات مع السفراء ومسؤولي البعثة الأممية ضمن العلاقات العامة أكثر منه الاعتراف بالدور السياسي، وتعكس أنشطة حزبي العدالة والبناء، والديمقراطي، مرور الأحزاب بحالةِ كسلٍ سياسي، ترجع إلى قلّة الحيلة أمام انشطار مؤسّسية الدولة.
في هذا السياق، تسبّب تراجع وهج الإخوان المسلمين في حدوث انتقال نحو تيار السلفية الجهادية، للقناعة بخطابه بشأن مشكلات الوضع الراهن، وتُشير بعض المظاهر إلى وجود تداخل ومشاركات في بعض الأنشطة الإعلامية. وتنشر جمعية الإحياء مقالات للغرياني، مثل "بشائر النصر تتوالى" في الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، ما يعكس وجود فقر في الرموز الدينية والسياسية، ما يجعلها أقرب إلى التداخل مع الأفكار الجهادية، ربّما يعكس هذا التقارب لطبيعة القضايا الراهنة، وخصوصاً في الحرب مع إسرائيل، لكنّه، بشكلٍ عام، يمثّل تناقصَ قدرات الجماعة الجذر الأساسي لنقص القوّة التعبيرية لدى فروع الإخوان المسلمين في بلدان أخرى، فمن الناحية السياسية، كان تأثيرها محدوداً، حيث شغلت تسعة مقاعد من إجمالي 28 مقعداً لحزب العدالة والبناء في المؤتمر الوطني، وبجانب الانقسامات المتتالية، تُواجه الجماعة تراجعاً ظاهراً على المستويين، السياسي والاجتماعي.
وفي سياق التحليل السابق، يمكن القول إنّ دور الإسلاميين ظلّ من دون تقديم قيمة مضافة للدولة، وظلّت منشغلة بعمليات الاستبعاد البينية، ما يرجّح اقتصار دورها على إسناد أيّ كيان سياسي أو اجتماعي، فخلال العقد الماضي، تراجع نفوذ السلفية الجهادية والعدالة والبناء في المؤسّسات لحساب الجماعات المسلحة والنخبة السياسية من خارج ثورة فبراير، فقد عملت الحكومات المتعاقبة على تحويل نفوذ الموظفين القريبين من دوائر "الإخوان المسلمين" لحسابها، وهذا ما ينطبق على المصرف المركزي وديوان المحاسبة، ليبقى دور الإسلاميين في مساراتٍ متوازيةٍ من دون تأثير ملموس في تجميع قدرات الدولة.