"الإخوان" المصريون بين التسوية والمنفى
على فترات متقطّعة، تحاول جماعة الإخوان المسلمين المصرية اقتراحَ معالجة مشكلاتها مع الحكومة المصرية، غير أنّ ما ظهر، مع تكرار تلك المحاولات، تباين الخيارات السياسية بين المرونة النسبية والرفض المطلق للحوار مع الدولة. لا تعكس هذه الحالة مُتغيّراً جديداً في تصوّرات الجماعة، بقدر ما تثير التساؤل عن حقيقة رغباتها، في ظلّ تَعرّضها لتحدّيات ولأعباء التغيّرات المتسارعة في في التركيبة الداخلية، والأعباء المرتبطة بالبيئة الجديدة وتداعياتها المستقبلية.
ظهرت المناقشات بشأن خيارات الإخوان المسلمين خلال النصف الأول من سبتمبر/ أيلول 2024، فانشغلت بموضوع العلاقة مع الدولة، وبدت التصريحات أكثر تبايناً، فبينما ينصرف فريق إخوان سايت إلى البحث عن صيغة هادئة لمراجعة المواقف تجاه الحكومة المصرية، انشغلت المجموعة الأخرى (إخوان أون لاين) بالحديث عن مشروعية تمثيل الجماعة ورفض مبادرة منسوبة إلى السجناء والمحبوسين احتياطياً. بدت هذه المشاركة محاكاةً لظهور آخر في الشهر نفسه، استطلعت فيه هيئة البثّ البريطانية مواقفَ جماعة الإخوان من بعض القضايا، فأجرت حواراً صحافياً مع الناطق الإعلامي، طلعت فهمي، بدا محتواه عامّاً ولم يقترب جدّياً من الشؤون الداخلية للجماعة أو فحص المواقف السياسية، وذلك بخلاف استقصاء لقاء رئيس القسم السياسي، حلمي الجزار، عن العلاقة مع الحكومة المصرية والعلاقات الداخلية للجماعة ومقرّ قيادتها في المنفى.
حالة المنفى بمثابة مُختبَرٍ لقدرة قيادة "الإخوان" على إدارة عمليات مُتعدّدة الأبعاد وتسييرها، بين الجماعة ودولة المقرّ ودولة الجنسية
ورغم تزامن المقابلتين، اختلف توزيع الأسئلة، فبينما استغرقت الأسئلة لفريق "إخوان أون لاين" بموضوع العلاقات التركية المصرية، ثمّ قليلاً حول موقف الجماعة من الحكومة المصرية، كانت الأسئلة الموجّهة إلى فريق "إخوان سايت" متنوعةً، رتّبت على نحو يكشف المواقف تجاه أنشطة كثيرة، كان أهمّها موضوع العلاقة مع مصر والانقسام الداخلي ثمّ الوضع في تركيا. ربّما ترجع صياغة الأسئلة وترتيبها إلى اختلاف أولويات كلّ فريق، سواء تجاه المصالحة/ التسوية أو اختلاف الحساسية للتغيّرات السياسية، خصوصاً ما يرتبط بتطوّر علاقات مصر وتركيا وتفاقم الأزمة الداخلية، لتعكس ثنائية القيادة في لندن وإسطنبول، وتثبيت صورتها قيادةَ منفىً أو تكثيف دور التنظيم العالمي في الترتيبات الراهنة على حساب أولويات الفروع القطرية.
وكان لافتاً أنّه على الرغم من الترويج الواسع للمقابلة التلفزيونية وتتابع التصريحات حولها، بقي التفاعل محصوراً داخل الجماعة من دون تحوّل أيّ من المشاركات إلى ظاهرة على وسائل التواصل الاجتماعي. تبدو هذه الحالة غير مُتأثرة بالحروب الجارية، بقدر ترابطها مع تداعيات تآكل النخبة وانحسار جاذبية التنظيم، وبغضّ النظر عن ضآلة الأفكار الجديدة، لا يحظى المتحدّثون الإعلاميون بقدراتٍ مناسبةٍ لقراءة واقع الجماعة ومحيطها السياسي.
وباستثناءات قليلة، تتناسق مواقف مجموعات الإخوان المسلمين، ويتبنّى الاتجاه العام للخطاب السياسي حزمةَ مطالب، هي أقرب إلى شروط مسبقة، تتعلّق في معظمها بالمطالبة بإطلاق سراح السجناء، فلدى مراجعة بيانات "الإخوان" وتصريحاتهم حول ذكرى رابعة في 2024، بدا التلاقي واضحاً على وصف النظام بالتابع لإسرائيل والمتضامن مع مشروعها، وهي من المصادر الأساسية لتثقيف الأعضاء على مفاهيم المفاصلة، ما يمثل انزياحاً نحو قناعات الفريق الثالث (المكتب العام) وتطلّعاته العنيفة، ما يشكّل امتداداً لتطلّعات إسقاط الحكومة ومحاسبة المتورّطين في فضّ اعتصامَي ميداني رابعة والنهضة (أغسطس/ آب 2013).
وعلى العموم، لا يقتصر الانقسام على خلافات لوائح، فمع تزايد ظاهرة انحسار النخبة تحوّلت الأزمات الداخلية إلى انقساماتٍ حقيقية، ولم تعد تقتصر على النزاع بشأن التمثيل السياسي، فقد استقرّ بقاء ثلاث مجموعات على طريقة المزج بين أفكار حسن البنا وسيّد قطب، وأخيراً مقولات محمد كمال، لتعكس مكوّنات الخلطة الجديدة أولويات كلّ مجموعة وشِدَّة موقفها من الدولة، بين القبول المشروط والاتهام بالخيانة، لتحول هذه البيئة دون إنضاج المواقف الانفتاحية، ورغم اقتراب مصطلح التسوية من الواقعية السياسية، لكنّ طرحه بديلاً من المبادرة يعكس عدم قدرة الجماعة في تعويض مفهوم "الشرعية"، وتفضيل انتظار حدوث تغيّرات خارجية، كتداعيات أخطاء الحكومة، والاحتقان الشعبي أو الضغوط الدولية.
على أيّ حال، تواجه حركة الإخوان المسلمين مشكلة غياب نموذج أو صيغة لمراجعة الموروث الثقافي للحدّ من هيمنة الأيديولوجيا على التصرفات اليومية، بحيث تميل الجماعة، بشكل دائم، إلى الاحتماء بالطابع الرسالي وتوظيف التلازم بين الدعوي والحركي لتعويض التفكّك الداخلي، لتكون الشمولية قيداً على الواقعية السياسية، ومثاراً للخلاف حول أولوية الفصل بين السياسي والدعوي، في هذه الجزئية، ظلّ تناول مكونات الجماعة متمسّكاً بالمرجعية الفكرية فيما اختلفت بشأن النظر إليها من ناحية الوظائف السياسية. ونظراً إلى انحسار التطوير على حسن البنا، لم تبرح تصريحات متحدّثي الجماعة مستوى الكلام عن الرغبة في تجنّب الصراع على السلطة (رئاسة الدولة) لفترة زمنية، مع التمسّك بالحقّ الدستوري في المشاركة السياسية في الانتخابات العامّة. وبغضّ النظر عن وقوع التصريحات في أسر النصوص التقليدية، تراجعت تصريحات فريق "إخوان سايت"، أخيراً، عن تصريحات سابقة بالامتناع عن المشاركة في الانتخابات. قد يعكس هذا التأرجح غياب قرار لضبط التوجّه نحو التسوية أو المصالحة، وأنّ ما يجري من تصريحاتٍ، تبدو في طبيعتها اختبارية.
تُعطي حالة المنفى فرصةً إضافيةً لفهم سياقات الإخوان المسلمين، فكما هي التجربة الأولى لفرع الإخوان المصريين، فإنّها بمثابة مُختبَر لقدرة القيادة على إدارة عمليات مُتعدّدة الأبعاد وتسييرها، بين الجماعة ودولة المقرّ ودولة الجنسية، وهي مُوازنة تواجه صعوبات في ظلّ عدم الاستقرار الإقليمي وحساسية الحكومات الوطنية ضدّ المعارضة من المنفى، وتكتمل هذه القيود مع معاناة الإسلاميين في أوروبا من الاغتراب الاجتماعي، وتأثيره على النموذج الدعوي، بحيث لا تعكس تجارب الهجرة حالةً تطوّرية للإسلام السياسي، بقدر ما يساهم التعايش في الإدماج التدريجي.
ورغم استمرار ترتيبات البقاء في المنفى، ليس "الإخوان" على موقفٍ واحد. وبينما يستقرّ موقف مجموعة إخوان أون لاين على تركز الجماعة في داخل مصر، ولا يعدو وجود ممثليهم في الخارج إلا مرحلةً عارضةً، تحاول الأطراف الأخرى تطوير شبكة علاقاتها الدولية، لتكون خيارات المنفى مركزية. فعلى الجانب السلوكي، تكشف سنوات ما بعد الانقسام الثاني في 2021 عن تسارع استكمال الهيكل التنظيمي في الخارج. انتشرت هذه التطلّعات لدى كلّ الفِرَق لغرض إثبات الجدارة بتمثيل الجماعة. وبعد مرحلة تمزّق مجلس الشورى وانشطاره، بدأ فريق "إخوان سايت" استكمال عضوية مجلس الشورى في الخارج، بما يُرسّخ وضعية المنفى.
يتوقّف مآل قيادة الإخوان في المنفى على تسارع آثار القيود الخارجية مقارنةً بأريحية علاقتها مع الحكومة المصرية
وعلى العموم، يعكس الخطاب السياسي حالةً من الاسترخاء للبقاء في المنفى باعتباره ملاذاً ملائماً للنشاط التنظيمي والسياسي. يظهر هذا الجانب في الحديث بافتخار عن الحقّ في اكتساب جنسية أخرى، تحت تبرير الحاجة الإنسانية وحقّ الانتقال، ورغم وجاهة هذا الرأي، تشير تجارب مُعارَضة المنفى إلى تبدّل الأولويات في الوضع الجديد، وتتراجع الحاجة إلى الخوض في تصحيح المسار السياسي وتأخير أولوية السعي للتسوية السياسية ووضعها ضمن مساومات هشّة، في مقابل الرضا بالبقاء في الهامش الاجتماعي/ السياسي في بلدان المنفى. تُعطي العشر سنوات الماضية مُؤشّراً على مدى تحرّر قيادة الجماعة، بعد خروجها من القاهرة، من القيود الخارجية وتحييد تأثيرها على الشؤون الداخلية للجماعة.
في الوقت الراهن، تقع حالة قيادة الإخوان المصرية في موقع وسط ما بين تجربة المنفى العراقية، التي انتهت بمنح الولايات المتّحدة شرعية إعلان الحرب على العراق، وانتهاء حالة المعارضة السودانية بالسلام مع الحكومة، والعودة تحت مظلّة اتفاقات ثنائية وضمانات إقليمية. ووفق السياق الحالي، يتوقّف مآل قيادة حركة الإخوان المسلمين في المنفى على تسارع آثار القيود الخارجية مقارنةً بأريحية علاقتها مع الحكومة المصرية، وهي معادلة لا تبدو صعبةً في محتواها السياسي، ويتوقّف توازنها على مدى استقلال قرار مجموعات الجماعة.