"صديقُنا الملك"... كتابٌ لا يُنسى
غيّب الموت الخميس الماضي رجلا فرنسيا اسمُه جيل بيرو، عن 92 عاما. محامٍ سابق ثم روائي، ثم كاتب وصحافي. انحسرت شهرتُه بعض الشيء، سيما بين جيل العشرية الأخيرة في عالم الميديا والكتابة، وهذا نبأ وفاته لا يذكّر به وحسب، وإنما بالكتاب الذي أحدث دويّا غير منسي، بعد إصدار طبعته الأولى في باريس في 1990، ثم الثانية في 1992. إنه "صديقُنا الملك" (NORTE AMI LE ROI)، عن ملك المغرب الراحل، الحسن الثاني، أو على الأصحّ عن القمع الشنيع في عهده، والتعذيب في سجونه، وما ذاقه رموزٌ معارضون مغاربةٌ في زمنه من عسفٍ ثقيلٍ وأحكامٍ قضائيةٍ متجبّرة مسيّسة، وما تعرّضوا له من ملاحقاتٍ واستهدافات، وما عوقب به سجناء في معتقل تازمامرت الرهيب من تمويتٍ مهول 18 عاما، وما لحق بأسرة الجنرال محمد أوفقير من ظلمٍ كبير. ولا يكتفي الكتاب، الذي تجاوز صفتَه كتابا عند صدوره إلى صفته حدَثا بالغ الأثر والأهمية والقيمة، بهذا كله وكثيرٍ غيره في أثناء ما سُمّيت في المغرب "سنوات الجمر والرصاص"، من منتصف الستينيات تقريبا إلى مطالع التسعينيات، بل يأتي أيضا على مسلكياتٍ شخصيةٍ للملك، تقدَح في صورتِه وموقعه، يحتاج التسليم بها إلى احتراسٍ وتثبّتٍ شديديْن. وعلى ما أفيد، فإن مليون نسخة بيعت من الكتاب في فرنسا وأوروبا في السنوات الأولى لصدوره، وهذا نادرٌ بشأن كتبٍ في الغرب عن بلادٍ أخرى. أما في المملكة، فقد تلقّفه مغاربةٌ بلا عدد، وصل إليهم مصوّرا ومهرّبا وبالفاكسات، ولم يجرُؤ الموزّعون على بيعِه للناس، بعد غضب الحسن الثاني منه والأزمة السياسية التي تسبّب بها ما كتبَه فيه جيل بيرو بين الرباط وباريس. أمّا نحن غير القرّاء بالفرنسية، فيسّرت لنا لاحقا الطبعة العربية بترجمة ميشيل خوري (دار ورد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 2002) أن نقرَأه، ويا لهوْل ما قرأنا.
لقائلٍ أن يقول إن معلوماتٍ وفيرةً أورَدها جيل بيرو في كتابه صارت ميسورةً ومبذولة، عن محاولتي الانقلاب الشهيرتين ضد الحسن الثاني، في مذبحة قصر الصخيرات 1971 وفي استهدافه في طائرته في 1972، وعن المحاكمات عقبيْهما، وعن الاعتقالات والاختطافات، وعن تغييب المهدي بن بركة، وعن "تزمامارت" وغيرِه من سجون، وعن الصراعات السياسية الحادّة بين المعارضين والملك، وعن أبراهام السرفاتي وسجنه، وعن كثيرٍ غير هذه من قضايا استرسلَ عنها الكتاب المثير والشائق. وهذا صحيحٌ، بفعل الانعطافات التي عبر إليها المغرب بعد منتصف التسعينيات تقريبا، واتّساع مساحات الحرّيات الإعلامية، ولو بسقوفٍ معلومةٍ، في المغرب، وانفتاح فضائياتٍ وأفلام وثائقية على تسجيل شهاداتٍ موثّقة عن ذلك كله، غير أن كلاما كهذا لا ينفي القيمة الخاصة لـ"صديقنا الملك" الذي وفّر، قبل أزيد من 30 عاما، للجمهور العام، تفاصيلَ لم يكن الوقوع عليها باليُسر الذي صِرنا عليه تاليا. فضلا عن أن أغلب الذين كتبوا وأرّخوا وأنجزوا تحقيقاتٍ ومقابلاتٍ صحافيةً عن تلك المرحلة في المغرب وشهودها والفاعلين فيها لم يُمكنهم هذا من دون اعتمادٍ كثيرٍ على الكتاب الذي صدَق وصفُ من وصفوه بأنه كان قنبلة. وتلك "الشهادات على العصر" التي سجّلها أحمد منصور على شاشة "الجزيرة" مع شخصياتٍ مغربيةٍ (أحمد المرزوقي وصالح حشّاد وعبد الهادي بوطالب وغيرهم) غَرَفت كثيرا من جيل بيرو في مؤلّفه الذي لم يتزيّد من اعتبرَه الكتابَ "الأكثر تأثيرا في التاريخ السياسي للمغرب المستقلّ". وليس ثمّة مبالغةٌ في القول إن الكاتب الفرنسي ساهم حقّا في الدفع بوضع ملفّ حقوق الإنسان في زمن الحسن الثاني على الأجندة الفرنسية الرسمية، وساهم في الإسراع نحو الانفراجة التي بدأ المغرب يشهَدها شهورا بعد صدور الكتاب (تحرير الناجين من معتقلي تزمامارت والإفراج عن السرفاتي وغيره، ... إلخ).
يتخفّف صاحب "صديقنا الملك" من إحالة قارئه إلى مصادر معلوماته. يكتًُب واثقا من صدقيّتها. قد يُرجع هذه وتلك إلى من كتب عنها أو أعلنها (أو أشاعَها)، غير أنه لا يُلزِم نفسَه بهذا في كل ما سرَده وتناوَله. لقد بدا حريصا على إيقاع الراوي الذي يحكي ويسترسل ويأتي بالتفاصيل والخلفيّات، على الإحاطة بما يخدِم مقولته وفكرته. ينشغل بالواقعة وما يتّصل بها من كل جانب، فيقدّم للقارئ توثيقا وتأريخا وليس إنشاءً مسترسلا، وإن تبدو انحيازاتُه وشكوكُه وآراؤه ظاهرة.
ينتسب الكتاب إلى نوعٍ من الكتابة شحيحٍ عموما، سيّما في الحالة العربية. كتَبه جيل بيرو بحرّيةٍ وثقةٍ كبرى بالنفس. قال إنه تلقّى تهديداتٍ بالقتل بعد إصداره، لكن الأهمّ أننا لم نُصادف ردودا كثيرة تُكذّب كثيرا منه.