شوارع غزّة... بيتُنا الواسع الكبير

22 نوفمبر 2023

طابور بانتظار الحصول على الخبز في مخيّم النصيرات وسط قطاع غزّة (4/11/2023/Getty)

+ الخط -

لم يعد ممكنا أن نستمرّ في إعداد الخبز بواسطة إشعال الحطب داخل البيت الضيّق، والذي يرتفع عدّة طوابق، فهناك أطفالٌ عديدون داخل البيت يصابون بالاختناق بسبب الدخان المتصاعد من إشعال النيران وتكاثف الغازات الضارّة التي يتنفّسها الأطفال رغما عنهم، وقد أصبحت شكوى ضيق التنفّس والسعال لديهم هي الحالة الصحّية العامة. وبناء على ذلك، قرّرنا، نحن الكبار الذين نمتلك زمام قيادة ذلك الحشد من النازحين، أن ننزل إلى الشارع، حيث بيتنا الواسع الكبير.

أصبحت مهمّة إعداد الخبز يومية شاقّة ومرهقة، وقد كنّا سابقا نشتري كميات منه ونضعها في المبرّدات ونسخّن ما نحتاجه. أما اليوم فقد أصبح لزاما علينا أن نسعى سعيا مضنيا في سبيل تهيئة عدّة أرغفة من الخبز، لإسكات جوع بطون الصغار ثم الكبار.

حين نزلتُ إلى الشارع الذي يُفضي إليه باب البناية الضخمة التي أوينا إليها، بعد نزوحنا من شمال القطاع، اكتشفت أنني لا أقف في الشارع، حيث عليّ ارتداء ملابس الخروج، وانتعال حذاء مناسب، إضافة إلى حقيبة معلقة في كتفي، تتناسق مع لون الثياب، وعطر خفيف لا غنى عنه بالتأكيد، ولكن الاكتشاف، هذه المرّة، أنني أقف في الشارع مثل المئات من المواطنين، حيث نرتدي ملابس منزلية، ليست ناصعة النظافة، لقلّة الماء الصالح لغسلها، إضافة إلى الخفاف المنزلية، ورائحة العرق التي تتراوح في شدّتها، بحيث تنقل إليك صورة عامة أن أياما طويلة مضت، من دون أن يحصل هؤلاء البائسون على حمّاماتهم اليومية.

الآن في شارعنا الواسع الكبير، لم يعد للمظاهر مكان. ولكن هناك أشياء كثيرة تربط الجميع، ليس من بينها التهندم والتأنّق، فالجميع يقف في طوابير متفرّقة؛ فالأب يصطفّ في طابور، للحصول على ماء للشرب، والابن يصطفّ في طابور آخر للحصول على ماء للاستخدام اليومي، مثل غسل الملابس والاستحمام. أما الأم والابنة فتقفان في طابور، انتظارا لدور العائلة في تجهيز خبزها فوق فرن طابون أقيم على ناصية الشارع، والأم تحمل الخبز الذي ما زال عجينا فوق رأسها، فيما تحمل الابنة بعض قطع الكرتون المقوّى التي جمعها الصبية من الأزقّة لكي تكون وقودا لنار الفرن.

يصطفّ طابور من الشباب والفتية، في زاويةٍ، لحلاقة شعر الرأس واللحية، فيما هناك من يتجمّعون حول باعة خضار قليلة، لا تزيد عن البندورة والخيار، وعلى مقربةٍ تجمّع لبعض الكهول والرجال الطاعنين، والذين يحملقون في الأفق أكثر مما يتحدّثون ويثرثرون، ولكنهم لا يُخفون مراقبتهم الطوابير، وربما كانوا يصمتون، أملا في تتبّع قذيفة صاروخية قبل نزولها فوق الأبناء والأحفاد، وقبل أن تحوّلهم إلى أشلاء يصعب جمعها، ويحوّلها الأطباء على عجلٍ من أجساد بشرية ممدّدة بلا حياة، تنتظر قبلة ونظرة وداع، إلى كيس أبيض، ويكتب عليه مجموعة أشلاء عائلة فلان، وقد تمّ التعرف إليهم من بقايا ثياب أو خصلات شعر أو شهقة خوفٍ على وجه محترق.

نلتقي، في شارعنا الواسع الكبير، من دون موعد، بأحبّة وأصدقاء وأقارب جمعهم النزوح، رغم أنهم في الأيام العادية لا يلتقون من دون ترتيب مواعيد مسبقة، ولكنهم الآن أصبحوا يلتقون مصادفة، وعلى حال واحدة.

لا حرج الآن ولا خجل ولا مجاملات، فلا وقت لكل هذه المهاترات الفارغة، فهناك همٌّ يوميٌّ يجمع هذا الشارع، وهو لقمة العيش وشربة الماء، وغير ذلك لا يهمّ، حتى وأنت تضع يدك في يد صديق أو زميل، فأنت لا تطيل النظر إلى هيئته الرثّة أو ذقنه غير الحليقة، والتي خالطها الشيب، ولا حتى تكمل الإنصات لشرح حاله ومعاناته، بعد قصف منزله ونزوحه وبحثه عن مأوى جديد وتدابيره الشاقّة، من أجل ذلك، فهذا كله تخبره كمنهج مدرسي عقيم مكرّر بلا خطّة تربوية مستقبلية لتطويره أو تغييره. ولذلك أنت تفلت يدك وتمضي، لتختفي في زحام شارع غزّة الواسع الكبير.

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.