شمّة الكواري .. ذاكرة المكان
يغشاك شيءٌ من الحرج، بعد أن تنتهي من قراءة رواية القطرية، شمّة شاهين الكواري، "في ذاكرتي مكان .. الجذور" (دار جامعة حمد بن خليفة للنشر، الدوحة، 2020)، لأنها السابعة لكاتبتها (عدا عن رواية خيال علمي للناشئة، ومجموعتين قصصيتين)، ولم تقرأ أيا من سابقاتها، فيما الخبرة في الحكي وبناء مسار سردي والمناورة مع أزمنة القص، وغير ذلك من أدوات العليم/ العليمة بفن الرواية واحتراف كتابتها، أمورٌ ظاهرةٌ، ولافتةٌ، في هذه الرواية التي استحقّت، أخيرا، جائزة كتارا للرواية العربية في دورتها السابعة (فئة الرواية القطرية). وبالنظر إلى الإتقان البادي في التوازي الذي حضر في هذا العمل السردي، الشائق حقا، بين زمنيْن بعيديْن لمحكياته المتناسلة من حكايةٍ كبرى فيه، وكذلك المغامرة غير الهيّنة في ذهاب الكتابة إلى بيئتي الصحراء والبحر، قبل أزيد من مائة وخمسة وعشرين عاما (1895 وما قبلها)، لتتحرّك الشخصيات هناك، بالنظر إلى هذين الأمرين، وغيرهما ربما، في الوُسع حسبان هذا العمل حبّةً طيبةً في عنقود الرواية العربية الخليجية، الناهضة، والتي في حاجةٍ إلى إضاءات نقدية جدّية وجادّة ومثابرة، واهتمام خاص من الصحافة الثقافية العربية، وإنْ تحرز شيئا من هذا وذاك الإصدارات الروائية السعودية. ولا يُغفل الانتباه، هنا، إلى الحرارة الضافية في رواية شمّة الكواري، وإلى مقادير من المتعة تحقّقها قراءة هذه الرواية، عن أخطاء نحويةٍ (وإملائيةٍ) غير قليلة فيها، وعمّا كان يلزمها من بعض التحرير اللغوي الذي كان سيخفّف من فصاحةٍ زائدةٍ في حكي شخصياتٍ طلْقة وغير متعلمة.
المرسلة، الخافية الظاهرة في آن، في رواية "في ذاكرتي مكان .." أن ناسا عاشوا في أرض دولة قطر، قبل أزيد من قرن ونصف القرن مثلا، كابدوا في حياتهم، ليبقوا، وليغلبوا ظروفا قاسيةً وطبيعةً جافة. وكانت لهم في الأثناء حكاياتهم، أشواقهم. كانت لهم محبوبات، وللنساء منهم مآثر وأمور عظيمة. كانوا يغامرون مع البحر الذي يسعون فيه من أجل رزقهم، يغيّب شبّانا منهم، يرميهم في أحشائه، غير أن الناس لا يهابونه، يقاومون الخوفَ فيهم منه. كان ثمّة خاطفو نساء، وعبيد. كانت ارتحالاتٌ وأسفارٌ إلى بومباي والبحرين. كانت ثارات وحماقات، كان عاقلون وحكماء، وكان جاهلون ومكابرون. كان محبّون ومتسامحون، وكان مكايدون ومخاصمون. وكانت النساء الوديعات الصابرات، الخائفات المؤمنات بقضاء الله وقدره، وكذا اللواتي يتفشّى الحسد فيهن، .. يجتمع كل هؤلاء في حصّة بنت غانم، مبارك بن مشرف، صور ومحبوبته الشابة الفاتنة فايدة، سلامة، لطيفة، الشيخ أحمد بن محمد المؤذن، وغيرهم كثيرون، يجتمعون بين دفّتي رواية شمّة الكواري، بمشاعرهم القلقة والعاصفة في حشاياهم، بكل الذي في جوانحهم وجوارحهم، بكل ارتباكاتهم وحيرتهم، في لحظات قوةٍ وضعف، في حالات حبٍّ وشغف، في دسائس صغيرة، في ارتجافاتٍ وآمالٍ وآلامٍ وأحزانٍ وأفراح. وفي هذا كله، وغيره كثير، تجدك تقرأ رواية الإنسان في المكان. تحمي ذاكرة المكان عندما يتوالى الحكي ويتتابع، ويروح ويجيء من شخصيةٍ إلى أخرى، ويغادر من زمن إلى آخر بعيدٍ سابق، وإلى آخر متقدّم. وفي ظنّ صاحب هذه الكلمات أن الشائق في صنيع شمّة الكواري هو في لعبة المراوغة هذه مع الزمن، سيما وأنه زمنٌ ناءٍ، غافٍ ومتروكٌ هناك، في رمال أرضٍ تبدو الكاتبة الحصيفة مهمومةً جدا في تظهير ذاكرتها، بكتابة "رواية خيالية، بنكهة أحداثٍ حقيقية"، على ما أوضحت، في تنويهٍ في مختتم صفحات الرواية، كان بديعا فيه إتيانُه على "تعاطفها" مع بعض الشخصيات، وعلى رثائها حال آخرين، وأيضا، يا للدهشة، على خوفها من بأس أحدهم وسطوته أشدّ الخوف (مبارك بن مشرف الكبير)، وأيضا سؤالها عن سبب أنها جعلت صور يفرّط في حبيبته فايدة. تسأل شمّة: لماذا لم أساعدْه في استعادتها؟
وليس من تزيّد لو قال واحدُنا إن خواطر مثل هذه تأتي على بال قارئ هذه الرواية، سيما وأن الكاتبة تجعلُه، في أولى الصفحات، خائفا على ابن حصّة، الصغير الذي يصحبه والده معه إلى الغوص في رحلة موسم الخانكية لصيد اللؤلؤ، وفي بالها أخوانٌ لها غرقا في البحر. يعود الولد مع أبيه في مختتم الرواية سالما، بعد صفحاتٍ تناسلت الحكايات من بعضها بإيقاع أمسك بخيوطها وبأنفاس شخصياتها، بالجاذبية الحارّة في منعطفاتٍ سلسةٍ في مسارها وأزمنته، فكانت روايةً غير تقليدية في مناوشة البحر وسنوات الغوص وتجارة اللؤلؤ، وهذه موضوعاتٌ أثيرة في القصة والرواية والمسرح في الخليج، وإنما عن إنسانٍ أبقى لهذه الأرض، وهي قطر هنا، ذاكرَتها.