شغفٌ بشرور غليص

21 ابريل 2014

عبد الرحمن آل رشي

+ الخط -
يُحكى، والله أعلم، أنَّ رئيساً عربياً أُعجِب، أَيّما إعجاب، بمسلسل "راس غليص"، إبّان عرضه في تلفزاتٍ عربية، في 1976، فدعا أَفراد أسرة ذلك العمل التلفزيوني إلى قصره ومجلسه، وبادر إلى تكريمهم، لكنه استثنى منهم بطل المسلسل الذي قام بدور غليص، الفنان السوري، عبد الرحمن آل رشي، لأنه شرير، فيما الرئيس لا يُحب الأشرار، ولا يمكن أن يكّرم أياً منهم. قد تبدو الحكاية فريةً على الرجل، لكن أَداء النجم الكبير كان باهراً في ذلك المسلسل البدوي الذي ذاع بين ملايين النظارة العرب في حينه، في الأردن وسورية وفلسطين وبلدان الخليج خصوصاً. تُستدعى تلك الواقعة، هنا، لأن آل رشي توفي قبل أيام، فأتذكره ممثلاً غولاً، وفناناً عالمياً، وإمكاناته جبارة. وتُستدعى، أيضاً، لأسأل عمّا إذا كنتُ كما ملايين غيري، تشدّنا أدوار الشر لدى نجوم السينما والدراما، أكثر من أدوار الطيبين وذوي الأخلاق الحميدة.
كان فريد شوقي يأخذنا إلى دور السينما في يفاعتنا، لنرى شروره، كما مجايله محمود المليجي، حتى إذا تقدّم الاثنان في العمر، صرتُ، أو صرنا، في ازورارٍ عنهما، وقد باتا آباءً صالحين في مسلسلات تلفزيونية تقليدية. أَستسلم كثيراً لمشاهدة الأفلام المصرية القديمة، ولا يُزيحني إلا خطبٌ جلل من جلستي أَمام فيلم لمحمود إسماعيل، المعلم سلطان في "عفريت سمارة" (1959) مثلاً. أَما إذا صادفت على فضائيةٍ ما، ولو للمرّة المئتين، وفي رابعة النهار، فيلم "الزوجة الثانية" (1967)، وهو من تحف صلاح أبوسيف، فقد لا أَذهب إلى عملي، لأرى، للمرة الألف ربما، تقاسيم الشر والاحتيال والطمع والجشع التي أَبدع فيها صلاح منصور، عمدة البلد، عندما يُجبر شكري سرحان على تطليق سعاد حسني ليتزوجها، لتنجب له الولد، فتنجبه من زوجها وليس منه.
أما عادل أدهم، أحد غيلان السينما العالمية (ليس المصرية فقط)، فلا تزيّد ولا شطط في زعمي أنه موهبةٌ فريدةٌ لن تتكرر، في أدوار النصب والقتل والسرّاق والفاسدين. وفي حسباني أَن دريد لحام ما كان له أن يصير النجم المحبّب، في تلك السبعينيات خصوصاً، لولا شطارته في النصب والاحتيال وصنع المقالب، الساذجة غالباً، لحسني البورزان (أو البورظان)، نهاد قلعي، الآدمي إلى حدٍّ يجعله فنانا منسياً!
ينتسب عبد الرحمن آل رشي إلى سلالة هؤلاء الاستثنائيين، إلى طائفة توفيق الدقن، قبل أَن يصبح في فيلم متواضع القيمة موظفاً متقاعداً وأباً لعادل إمام، وهو الذي كانت ضحكته (إياها)، على شاشة الأسود والأبيض، في منازلنا الفقيرة التفاصيل، كافيةً لبعث البهجة في جوانحنا أياماً وأسابيع.
ولآل رشي، السوري الكردي كما تم توصيفه في خبر وفاته، دوره البديع في واحدٍ من أهم كلاسيكيات السينما العربية، أقصد "المخدوعون" (1972)، عن رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس"، وكان فيلماً للمصري الأنيق، توفيق صالح، ومن إنتاجٍ حكومي سوري. لم يكن يليق بالفنان الكبير دور أحد السذّج الذين يرتضون المكوث في الخزّان، وهم يسافرون متسللين في قيظ الصحراء إلى الكويت. لم يكن يحسُن له سوى أَن يكون "أبو الخيرزان"، سائق الخزّان. كان، رحمه الله، في بعض شبابه، وهو الذي رحل الشهر الجاري، عن 83 عاماً، حتى إِذا تيسَّر له أن يكون غليص في الحدوتة البدوية، لمع أَيما لمعان، وكانت متابعةُ مسلسل في التلفزيون، في سنوات السبعينيات، الفارطة بلغة إخواننا التوانسة، واحدةً من ذرى أَفراحنا في مساءاتنا إبّان الإعدادية التي كنتُ عليها. وفي البال أن المسلسل نفسه أُعيد إنتاجه قبل ست سنوات، بفريقٍ آخر، ولم يحظ بالذيوع القديم، ليس فقط لأن الأيام غير تلك الأيام، بل، أيضاً، لأن فرادة عبد الرحمن آل رشي كانت غائبة.
كان غليص لقيطاً خان وغدر من ربّاه. وهل من خسّةٍ أسوأ من هذه، ومن شرِّ أصعب من هذا؟ لاحقاً، لم يبق آل رشي هو ذاك الذي يقترف ذلك الشر القاسي، في أدواره شديدة الطيبة والحنو والأبوة في الحارة الشامية. كنت أمرُّ على أدواره هذه، من دون كثير اعتناء، وفي مصادفات عاجلةٍ غالباً، كأنني أفتش عن غليص الشرير، لأتفرج عليه، وليس على شخصٍ آخر. أَظنني، لست على شذوذٍ في الذائقة والمزاج، في تحبيذي الشر على الخير لدى عادل أدهم ودريد لحام وزهير النوباني ومحمود إسماعيل وفريد شوقي ومحمود المليجي، وفي شغفي بعبد الرحمن آل رشي، في "راس غليص"، وليس غير. 
    
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.