شاحنة برلين تصدم الأندلس

22 ديسمبر 2016

من آثار حادث الدهس في برلين (20/12/2016 فرانس برس)

+ الخط -
كنت مصادفةً في برلين، وقريباً من موقعة الدهس في سوق عيد الميلاد، جئتها من مسافةٍ شاسعةٍ زائراً للمرة الأولى، من أجل استلام مخطوط كتاب شقيتُ به، سميتهُ على سبيل الذكرى، وتشابه اللون، والفكرة، باسم كتاب الأندلسي أنطونيو غالا: "المخطوط القرمزي". رجوتُ الصديق أن يرسله إلي بريديا، بالمضمون، فرفض، وقال: المخطوط لا يقدّر بثمن، رجوته أن يودعه لدى صديقٍ في برلين، وسيتولى الصديق تسليمه لي باليد، فأبى، وقال: افهم، يا رجل، جئت من لندن، وأريد لقياك، فدمعت عيناي من الخجل واللوعة، وقرّرتُ السفر بدموع جافّة. السفر قطعة من العذاب، لا أصدّق أني استطعت، في هذا العمر، العثور على غرفة بملايين الجدران في ألمانيا. لي مع البيت قصةٌ لا تشبها قصة في العالم.
أحب البيت، وكأني من القدس المحتلة، أو كأني سلحفاةٌ تعيش في صندوق بيتها.
اتصل بي أصدقاء، عبر تطبيق في "فيسبوك"، وهاتفيا للاطمئنان عليّ، كنت قد وصلت إلى الفندق، قلت لأحدهم على سبيل التورية والمجاز: أصبت برضوضٍ وكسور في أضلاع المستقبل.
لم أبلغ أحداً من معارفي بسفري، لكن "فيسبوك" يفضح صاحبه، لقد تغيرنا بعد الثورة، الثورة ثورات، أظن أني تخلصت من بعض أقنعتي الحديدية التي أحرَقت وجهي، بسبب سعير الثورة السورية التي أحرقت الأقنعة، كنت أرغب في لقاء الأصدقاء النازحين في ألمانيا، وهم كثيرون، لكني خشيت أن يوصدوا أبواب قلوبهم دوني، عدتُ في اليوم التالي، وأنا أفكّر في الغرب، إنه كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. دعت الحكومة الألمانية المواطنين إلى المكوث في بيوتهم، حرصاً على سلامتهم، ما إن أُعلن الخبر حتى هبّ جميع الأطباء والممرضين إلى المشافي، متطوعين من غير استدعاء، ليس أغلى من الإنسان في ألمانيا. بالأمس، غرق سكيرٌ متشردٌ في النهر بجوار بيتي الذي بملايين الجدران، فاستقرّت الحوّامات فوق النهر، كأنها معلقةٌ بحبال، أو ثابتةٌ فوق أبراج، ظلت تحوم يومين بحثاً عن الجثة، إلى أن شبعت من الموت وملّت فطفت.
كانت الطائرة السورية التي شُريت بأموال السوريين، تقصف الحارة الشرقية، فتندلع الزغاريد في الحي الغربي فرحاً بالقصف والدمار. أقيمت بين الأحياء جدرٌ برلينية أسمك من جدار يأجوج ومأجوج. الشاحنة هذه دهست ألمانيا كلها، وقبلها مليوناً من النازحين. قال صديقي حامل بريد "المخطوط القرمزي": صار السوريون زنوج العالم المعاصر، الموانئ الجوية أوجبت كتابة اسم دولة المنشأ في بيانات المسافرين، السوري سيفضح أصله، حتى لو كان مجنّساً بجنسية أخرى.
استقبلت ألمانيا اللاجئين أكثر من أي دولة عربية وغربية. ليس الغرب الخصم منصفا في الحكم، فكل الجرائم التي يقترفها غربيون تنسب إلى مختلين عقلياً، أما جرائمنا فهي نمطية، كلهم إرهابيون إسلاميون، القسمة ضيزى، وزاد في الطنبور نغمةً قتل السفير الروسي في أنقرة.
كان المتطوعون على صفحات "فيسبوك" قد رسموا منحنياً (ترند) للمعجبين، فنصّبوا مولود التنتاش قاتل السفير الروسي بطلا، كان المنحنى يعلو ويرتفع، اللايكات تهب على شكل موجة قبلات. قرأت تغريدات كثيرة لمشاهير، تبارك فعلته. البطل بالعربية من يبطل شيئاً، الرجل ينوي تفجير حربٍ عالمية، كل يوم تلوح في الأفق نذر حرب كبرى. احترقت سورية، ويراد لها أن تكون حطباً لحرق تركيا أيضا، أخلى الأميركان سفارتهم في أنقرة، ولحق بهم الفرس، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ. الجميع يريدون جرّ تركيا إلى الحرب، ذكّرنا مذكّر بحادثة قتل ولي عهد النمسا التي كانت سبباً في الحرب العالمية الأولى، فكتبت في مفكرتي: إن سبب الحرب العالمية الثالثة، إن اشتعلت، سيكون لأن رئيساً كان يجب أن يُقتل، أو على الأقل يقال.
عدت وفي يدي "المخطوط القرمزي" الذي سعيت إليه طويلا، وهو رواية قصة سقوط الأندلس.
البراميل ما تزال تسقط على السوريين الصامدين، الشاحنات تدحم النازحين.
المخطوط القرمزي صار أسود. سقطت الأندلس الأصل: دمشق.
دلالات
أحمد عمر
أحمد عمر
أحمد عمر
كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."
أحمد عمر