سِرُّ العلاقة بين ترامب وقاعدته الانتخابية
ثمَّة سؤال يحير الخبراء والمحللين السياسيين في الولايات المتحدة: ما الذي يجذب الناس إلى الرئيس السابق، والمنافس الحالي، الأوفر حظاً، حتى الآن، على ترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة، دونالد ترامب؟ ليس هذا سؤالاً ترفياً أو استفزازاً للزوم ما لا يلزم، بل هو سؤالٌ مفصلي يرتبط باستقرار ما تعرف بالديمقراطية الأعرق والدولة الأعظم في العالم. وجه المفارقة هنا أننا نقف أمام شخصية تواجه مزاعم وتهماً جنائية خطيرة، لا تقتصر، فحسب، على محاولات الغش والخداع والاحتيال والتهرّب الضريبي، بل تصل، كذلك، إلى حدّ التحريض على العصيان والتمرّد على دستور الولايات المتحدة ومحاولة تزوير نتيجة انتخابات رئاسية ديمقراطية وقلبها. للإثارة هنا وجوه عدّة، فترامب لا يحظى، فقط، بدعم غالبية القاعدة الجمهورية، على الأقل راهناً، بل إنه يملك فرصة حقيقية للفوز في الانتخابات الرئاسية، في خريف العام المقبل، إذ تضعه استطلاعات الرأي على قدم المساواة مع المرشّح الديمقراطي، والرئيس الحالي، جو بايدن، بنسبة 43% لكل منهما. وأثار هذا الواقع نقاشاً على مستوى آخر، ملخّصه ما الذي سيكون عليه الحال لو فاز ترامب بالرئاسة وهو خلف قضبان السجن، وهو السيناريو الممكن دستورياً؟ طبعاً، المسألة فيها تفصيل كثير، لكنه لا يعنينا هنا، حتى لا ننحرف عن السؤال المركزي الذي استهللنا به هذا المقال.
رافقت الفضائح المالية والأخلاقية والسياسية إعلان ترامب الترشّح للرئاسة عام 2015، ولم يأخذ أحد ترشّحه حينئذ على محمل الجد. على العكس، كان الرجل وحملته الانتخابية مادّة دسمة وجذّابة للتهكّم والسخرية السياسية. مع الزخم الذي أثبتته حملته الانتخابية في منافسات الحزب الجمهوري، بدأ النبش في تاريخ الرجل وفضائحه الجنسية والأخلاقية والمالية التي لا تعد ولا تحصى، غير أن أيّاً من ذلك لم يُجد نفعاً معه. بل، بدا أنه كلما زاد الهجوم من داخل الجمهوريين عليه تمسّكت به قاعدته الانتخابية أكثر. وعندما نال ترشيح حزب، ظنَّ الديمقراطيون أن الرئاسة جاءتهم على طبقٍ من ذهب، وأعدّت المرشّحة الديمقراطية حينها، هيلاري كلينتون، خطاب النصر الذي ستلقيه مساء يوم الاقتراع. في الفترة ما بين تأمين ترشيح الحزب الجمهوري له وخوض منافسة انتخابية شرسة مع كلينتون، نبش الديمقراطيون فضائح أخرى لترامب، بما فيها إيحاءات جنسية وإهانات للمرأة بالجملة. كانت تلك ترسانة كفيلة بإطاحة أي مرشّح آخر، خصوصاً إذا ما أضيفت إلى إساءات ترامب الأخرى بحقّ الأقليات السوداء واللاتينية والآسيوية والمسلمين. دع عنك هنا أكاذيبه الفاقعة ومزاعم احتيالاته الضريبية والمالية والتهرّب من ديون شركاته عبر إعلان الإفلاس.
عانى ترامب ولا يزال من عقد نقص جرّاء شعوره بأنه لا يحظى بالاحترام الذي يُحسب أنه يستحقه بين أقرانه
كانت النتيجة أن هزمت كلينتون في انتخابات عام 2016، جزئياً، بسبب لغط أثير حول خلطها بين بريدها الإلكتروني الشخصي وبريدها الإلكتروني الحكومي خلال عملها وزيرة خارجية (2009 – 2013)، في حين أن فضائح ترامب، التي في الأصل قادرة على أن تهدَّ جبالاً سياسية، لم تفعل فعلها معه. عندها وقف كثيرون أمام تصريح سابق له في أثناء حملته الانتخابية تباهى فيه أن بإمكانه أن يطلق النار على شخص ما في جادّة مانهاتن الخامسة من دون أن يخسر صوتاً واحداً. كان ذلك حال ترامب مع قاعدته الانتخابية طوال رئاسته، رغم ما اعتراها من هفوات ونكسات وفضائح وفشل، كما في تعامله مع جائحة كوفيد – 19. ومن ثمَّ وصل بعضهم إلى خلاصة مفادها أن ترامب شخصية تضادّ قوانين السياسة وثوابتها.
لا يبدو الراهن مختلفاً عن الماضي. حسب استطلاع حديث للرأي، 93% ممن صوّتوا لترامب في انتخابات عام 2020 التي خسرها ينوون التصويت له مرة أخرى. هذا رغم أنه يواجه حاليا حزمة ثالثة من التهم الجنائية، اثنتان منها فيدراليتان وواحدة في ولاية نيويورك، وقد تتبعها أخرى في ولاية جورجيا. ما سبق يعيدنا إلى السؤال المركزي لهذا المقال: ما الذي يجذب الناس إلى ترامب؟
حسب الطبيبة والخبيرة النفسية، باندي إكس لي، يكمن سِرّ العلاقة بين ترامب وقاعدته في بعدين أو عارضين أساسيين: التعاضد أو التعايش النرجسي ( Narcissistic Symbiosis)، والذهان المشترك، أو الاضطراب الوهامي المشترك (Shared Psychosis). يحيل مصطلح التعاضد النرجسي، هنا، إلى أفراد في شعبٍ ما مصابين بجروح نرجسية، ومن ثمَّ هم ينجذبون مغناطيسياً كأتباع نحو قائد يوظف منصبه لتملق الجماهير والضرب على أوتار معاناتهم واستيائهم وغضبهم. يتوق المصابون بهذا العارض، التابعون وبعض المتبوعين، إلى التعويض عن شعور داخلي لا يطاق بالدونيّة وانعدام القيمة وضعف القدرات. ومن ثمَّ، في حالة القائد، المبالغة في إظهار الكفاءة والاقتدار هو "جوهر النرجسية"، في حين يشبع ذلك تعطش التابعين الباحثين عن شخصية أبوية تقدم حلولاً، أو بالأحرى مهدئات لجراحاتهم النرجسية، حتى ولو رأوا في سلوك القائد أفعالاً كاريكاتورية. أما الذهان المشترك، أو ما يُعْرَفُ بـ"جنون الملايين" كذلك، عند حدوثه على مستوى وطني أو قومي، فإنه يستفز "أوهاماً مستحثة"، وتتحول إلى عدوى شديدة الأعراض، يكون عمادها الأوهام والبارانويا (الارتياب)، وهو ما قد يؤدّي إلى ميل إلى العنف شديد. وتتضاعف خطورة هذا العارض، عندما يكون أحد أقطابه شخصية مؤثرة، أو في موقع سلطة وله أتباع.
بغض النظر عن مستقبل ترامب ومصيره، دخلت الولايات المتحدة، منذ سنوات، منعطفاً حرجاً لن يكون عبورُه سهلاً
ليس من الصعب تكييف ترامب وقاعدته الانتخابية في إطار العارضيْن السابقين. تؤمن شريحة واسعة من قاعدة ترامب الانتخابية بأن أميركا تُسرق منها لصالح مهاجرين وأقليات يهدّدون النسيج الاجتماعي والثقافي والعرقي والاقتصادي للبلاد، وقد نجح ترامب في تقمّص شخصية الغاضب القادر على عكس هذا المسار ومآلاته. لكن ترامب، الثري الذي لم ولا يتورع عن الاحتيال على النظام من أجل التربّح والتكسّب الشخصي، عانى ولا يزال من عقد نقص جرّاء شعوره بأنه لا يحظى بالاحترام الذي يُحسب أنه يستحقه بين أقرانه. ومن هنا، لم يكن تقمّصه شخص الغاضب تملقاً للجماهير فحسب، بل تعبيراً عن دونيّة ملازمة له. ينطبق الأمر نفسه على ما يوصف بـ"الأوهام المشتركة" بين ترامب وقاعدته الانتخابية، كوجود دولة عميقة في الولايات المتحدة تتآمر عليهم، أو أن كوفيد – 19 كان مؤامرة، أو أن الانتخابات الرئاسية سُرقت منهم. لسنا في صدد تقييم كل معطى هنا، لكننا نطرح محرّكاً مشتركاً بين ترامب وقاعدته.
هل يكفي ما سبق في تفسير جدلية العلاقة بين ترامب وقاعدته؟ ليس من السهل الإجابة عن هذا السؤال في مقال عابر. لكن، لا شكّ في أن ثمَّة انقساماً مجتمعياً أميركياً عميقاً وعريضاً جداً. وبغضّ النظر عن نتائج الانتخابات الرئاسية، العام المقبل، وبغض النظر عن مستقبل ترامب ومصيره، دخلت الولايات المتحدة، منذ سنوات، منعطفاً حرجاً لن يكون عبورُه سهلاً جداً، ولا يوجد ضمانات أنها ستجتازه بنجاح.