في ضرورة تطور الإدارة السورية الجديدة فقهياً وفكرياً
لنضع جانباً الاستعلاء والصلف الغربي الإمبرياليّ (ليس الغرب كلّه إمبرياليٌّ دائماً) في التعامل مع الإدارة السورية الجديدة، ومساعي ابتزازها، وفرض تصورات تتعلّق بالمستقبل عليها عبر توظيف العقوبات القائمة على سورية منذ عهد النظام المخلوع والتلويح بمزيد منها، فذلك ثابت لا يجادل فيه إلا منحاز. ويكفي أن نذكّر هنا بالصمت الغربي الإمبرياليّ المُطبِق، بل إن بعضه لم يتردّد في التبرير (كما الولايات المتحدة) للاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة على سورية، وتهديد وحدة وسلامة أراضيها. تبرز هنا مسألتان، الأولى أن بعض المطالب الغربية الإمبريالية، إذا ما أُخذت مُجرَّدةً من دون النظر في دوافعها غير البريئة، محقّة ولا خلاف عليها، لناحية قيام نظام حكم تمثيلي تشاركي أساسه المواطنة، يحترم حقوق الأقلّيات ومكوّنات المجتمع من اتجاهات فكرية وثقافية متعدّدة المشارب. لكنّنا نعلم أن هذا المطلب الغربي الإمبرياليّ ابتزازيّ هنا، إذ إن الغرب الإمبرياليّ نفسه شرذم العراق من قبل، على أساس عرقي ومذهبي بذريعة الديمقراطية، وهو ذاته الغرب الإمبرياليِّ الذي هندس ودعم نظام المحاصصة الطائفية في لبنان. ومن ثمَّ، فإن ما يريده الغرب الإمبرياليّ، وبعض حلفائه العرب، هو تفسيخ سورية وإيهانها، لا الحفاظ على وحدتها وتأمين نظام حكم ديمقراطي فيها. الثانية (وهي ما يهمّنا هنا)، تتعلّق بضرورة أن تتواءم الإدارة السورية الجديدة مع متطلّبات المرحلة الراهنة، وأن تتطور فقهياً، على أساس أن مرجعيتها إسلامية، وفكرياً، خاصّة أنها تطوّرت بشكل واضح إدارياً وسياسياً.
زار وزيرا الخارجية الألماني والفرنسي الأسبوع الماضي سورية، والتقيا مسؤول الإدارة الجديدة أحمد الشرع في دمشق. وبعيداً من السلوك النزق والاستعلائي للمسؤولَين الأوروبيَّين وتجاوزهما الأعراف الديبلوماسية ولجوئهما إلى نبرة الإملاءات والوعيد المبطّن خلال تلك الزيارة، فإن ما ركّز عليه الإعلام، وثار حوله كثير من النقاش، كان امتناع مسؤولي الإدارة الجديدة، وفي رأسهم الشرع نفسه، عن مصافحة وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك. شخصياً، أتفهّم من يقول إن احترام القناعات ينبغي أن ينسحب على الجميع، لا أن يكون انتقائياً. ومعلوم أن بيربوك هذه "نسوية" و"تقدّمية" انتقائية، فهي تزعم أنها مع حقوق المرأة وحكم القانون في ألمانيا وأوكرانيا، ولكنّها مع إسرائيل في جرائم الحرب وحرب الإبادة التي ترتكبها في قطاع غزّة، بما في ذلك ضدّ النساء والأطفال. لكن، إذا كان مؤيّدو الإدارة الجديدة في سورية يُشهِرون مسوّغ الواقعية في وجه من ينتقد عدم ردّها على الاعتداءات الإسرائيلية منذ سقوط نظام الأسد، وتوغّلها في الأراضي السورية، فربّما عليهم إعادة النظر في نطاق الواقعية المطلوبة هنا. الحكم في دمشق ليس مؤسّسةً دينيةً كالفاتيكان أو الأزهر، إذ إن له متطلّبات أخرى، وسورية تبحر اليوم في خضمّ بحر متلاطم من المؤامرات الدولية والإقليمية والداخلية عليها وعلى وحدتها. ولولا إدراك الشرع ومسؤولي هيئة تحرير الشام، التي تقود المرحلة الجديدة في سورية، للعقبات والتحدّيات التي تواجههم وتواجه البلاد، لما كانوا أبانوا عن هذا الحجم من المرونة التي نراها منهم إلى الآن، بما في ذلك استقبال الوفود الأميركية والأوروبية في دمشق، رغم أن دولهم ما زالت تصنّفهم كياناً إرهابياً، ومتحمّلين صلفهم ووقاحتهم في التعامل معهم.
هذه المواءمات، وهذه المرونة، وهذه الواقعية، لا تعيب الشرع ولا هيئة تحرير الشام، بل هي الأمر السليم للحفاظ على استقرار المسار الانتقالي في سورية وضمان نجاحه. ومن ثمَّ، فإن الانغماس في فرعيات مثل قضية مصافحة النساء أمر لا فائدة ترجى منه، بقدر ما أنه يتحوّل أداةَ ابتزاز وتشتيت لأولويات المرحلة الانتقالية في سورية، التي تتطلّب تقليل الأعداء، أو على الأقلّ تجنّب شرّهم ما أمكن، وتعظيم المنجزات.
كثير من الأيديولوجيين، ومنهم الإسلاميون قطعاً، يبنون قلاعاً ليكتشفوا بعد أن ينتهوا منها أنهم محاصرون داخل حصونها وأسوارها، ولا يملكون مفاتيح أبوابها
مرّة أخرى، هذا ما يفعله الآن، إلى حد كبير، الشرع وهيئة تحرير الشام سياسياً وإدارياً منذ إسقاط نظام الأسد الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول 2024). تاريخ هيئة تحرير الشام معروف بجذورها السلفية الجهادية الضاربة في أعماق تنظيمَي القاعدة والدولة الإسلامية (داعش). وهي عندما تمرّدت على "داعش" تحوّلت إلى "القاعدة" باسم "جبهة النصرة"، ثمّ عندما انفكّت من القاعدة تحوّلت لهيئة تحرير الشام. وفترة حكمها في إدلب منذ عام 2017 صقلت تجاربها، وطوّرت فكرها وممارساتها، بعد أخطاء وقعت فيها، ونرى أثري هذا الصقل وهذا التطوّر في إدارتها الجديدة في سورية. لكن، واضح أن ثمَّة حاجة إلى مزيد من التأهيل، ليس سياسياً وإدارياً فحسب (مع أنهما لم يكتملا هما الآخران)، وإنما فقهياً وفكرياً كذلك.
كاتب السطور ليس متخصّصاً في المجال الفقهي، لكنّه (كغيره) اطلع على كثير من التقعيد والتأصيل الفقهي في مسألة مصافحة المرأة والآراء المتعدّدة فيه، والتي تراوح ما بين الحلّية والكراهة والحرمة. هذا فضاء واسع في الفقه الإسلامي المُعتبَر، ومن ثمَّ يغدو من غير المنطقي ولا العقلاني ولا العملي الانزواء في تفسيرات ضيّقةٍ لا تأخذ الواقع وإكراهاته في اعتبارها. لكن (للأسف!)، فإن كثيراً من الأيديولوجيين، ومنهم الإسلاميون قطعاً، يبنون قلاعاً ليكتشفوا بعد أن ينتهوا منها أنهم محاصرون داخل حصونها وأسوارها، ولا يملكون مفاتيح أبوابها. حينها، يجد هؤلاء أنفسهم أسارى خيارَين صعبَين، إمّا أن يتسلّقوا الأسوار ويلقوا بأنفسهم إلى مصير مجهول، وإمّا أن يهدموا الحصون والأسوار، وبالتالي يكون جهدهم ضاع هدراً، هذا غير شماتة الخصوم بهم، وانصدام قواعدهم. أمر آخر من الضروري ملاحظته هنا، ألا وهو أن قابلية كثير من الإسلاميين للتطوّر (وربما الانحراف) سياسياً أسرع من تطورهم الفكري والفقهي، بل إن الثاني يكاد يكون (غالباً) نتيجةً مترتّبةً على الأول. في العراق شارك الحزب الإسلامي (الإخوان المسلمون) في "مجلس الحكم" الذي شكّله الاحتلال الأميركي بعد إطاحة نظام صدّام حسين عام 2003. وفي الضفة الغربية وقطاع غزّة شاركت حركة حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، وفازت فيها، وشكّلت الحكومة الفلسطينية بعد ذلك، رغم أنها نتيجة مترتبة على اتفاقية أوسلو التي ترفضها. وقس على ذلك تجارب كثيرة عربيّاً، في مصر والسودان والأردن والمغرب وتونس واليمن. ربّما باستثناء السودان وتونس والمغرب، فإن التطوّر الفكري الأوسع، بغضّ النظر عن عمقه ومداه، جاء بعد خوض غمار السياسة والارتطام بإكراهاتها لا قبل ذلك.
واضح أن هيئة تحرير الشام، والشرع تحديداً، قد قطعت شوطاً جيّداً في التطوّر والتواؤم مع متطلّبات المرحلة
واضح أن هيئة تحرير الشام، والشرع تحديداً، قد قطعت شوطاً جيّداً في التطوّر والتواؤم مع متطلّبات المرحلة، لكن تهذيب اللحية ولبس البدلة واستخدام اللغتين السياسية والديبلوماسية أمور لن تكون كافيةً لإعانتهم على الإبحار في الأجواء العاصفة التي تمرّ فيها سورية اليوم. ولذلك، فإنّ المصالح العليا تتطلّب تطوّراً أعمق وأوسع، وهذا لا يعني أبداً الخروج من الفضاء الإسلامي وتمرّداً عليه، بل تطوّر في داخله، إن استوعبت درجة رحابته ومرونته. المتربّصون بسورية كثر وهم يملكون أدواتٍ مؤثّرة قادرة على حرف مسار السفينة، إن لم يكن إغراقها، والمسؤولون في الإدارة الجديدة مدركون ذلك تماماً، كما توحي كثير من سياساتهم وأفعالهم، ومن ثمَّ لن يضيرهم أن ينزعوا بعض أدوات ابتزاز فعّالة ومؤثّرة بيد الخصوم المتربّصين، ومرّة أخرى ضمن الفضاء الإسلامي الذي يؤمنون به ويلتزمون به.
تبقى كلمة، مسألة المساواة في المواطنة واحترام تعدّد المجتمع السوري، دينياً ومذهبياً وعرقياً وفكرياً وسياسياً، أمور لا ينبغي أن تخضع للمساومة ضمن عقد اجتماعي يحترم ثقافة المجتمع السوري وتاريخه وقيمه وتقاليده وأعرافه. هذا لا ينبغي أن يكون استجابةً لضغوط وابتزاز من قبل أفّاقين، بل من قناعة راسخة لدى الجميع.