في ضرورة نبذ "المكوّعين" ومرتزقة المواقف
تؤكّد الدراسات البيولوجية الحديثة أن الفكرة السائدة بأن بعض الحرابيَّ (من حرباء) تُغيّر لونها طوعياً لتتماهى مع محيطها، فيصعب تمييزها، ليست قاعدةً مطلقةً بالضرورة، بل إنها الاستثناء لا الأصل هنا، وأن ثمَّة أسباباً فيزيائية وفيزيولوجية أخرى تفسّر تلك الظاهرة. ليس الهدف من هذا المقال الغوص في علم الأحياء، وهو مجال على أيّ حال خارج تخصّص كاتب هذه السطور، إذ تكفينا المعلومة، إمّا للبناء عليها أو لإسقاطها على تجربتنا وخبرتنا البشرية السلوكية، لا البيولوجية طبعاً. من ذلك ما نشهده من سيل جارف في تبدّل مواقف فنّانين ورجال دين وسياسيين ومثقّفين في سورية، من النقيض إلى النقيض، منذ الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أيّ يوم انهيار نظام بشّار الأسد، وهروب "الزعيم الممانع" خارج البلاد ناهباً ما استطاع من أموال وذهب، تاركاً وراءه مجرمي "الأسد أو نحرق البلد" في مواجهة مصيرهم المحتوم.
في سياق خبرتنا العربية المعاصرة نعلم أن كثيراً من "المكوّعين" حينما أتيحت لهم كرّة أخرى عادوا أكثر لؤماً وانحطاطاً وتشبيحاً
يطلق السوريون على هذه الحالة "التكويع"، وهي لمن كانت عنده بقايا كرامة ذلٌّ ومهانةٌ لا يقدر على التعايش معهما إلّا من استمرأهما. ولا نعلم ما إذا كانت تلك الشريحة من "المكوّعين" تصدّق أكاذيبها التي تطلقها ألسنتها عن أنهم إما كانوا ثواراً مُتخفّين، أو أنهم كانوا رهائنَ الخوف، أو أنهم كانوا من المُغرَّر بهم، إذ إنّنا نتحدّث عن كثير منهم، ممّن أتقن ومارس "فنَّ التشبيح". نعلم أن الناس لا تصدّقهم، ولكن بعضاً من "المكوّعين" أو "الشبّيحة" ربما يكون قد وصل لحالة من التماهي مع الكذب فأصبح يُصدِّق كذبَه، ويعيشه واقعاً لا وهماً فحسب، وهم بذلك يتفوّقون على الحرباء التي يتغيّر لونها رغماً عنها بيولوجياً، في حين تتغيّر ألوانهم ومواقفهم عن وعيٍّ وسبق إصرار وترصّد. ومع ذلك، ينبغي أن نلاحظ هنا أن الحرابيَّ أذكى منهم، إذ إنّها لا توهم نفسها بأن محيطها يُصدِّقها عبطاً وتياسةً.
يقارب القرآن الكريم ظاهرةَ تغيّر مواقف بعض من رضوا واستطابوا حياة الذلِّ والتبعية والتواطؤ والشراكة في الجريمة، ومحاولتهم تبديل ألوان جلودهم، لا من منطلق القناعة بل لأنهم مرغمين كارهين، على أنه إعلان براءة كاذبة: "وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ. إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ. وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ" (البقرة: 165-167). في السياق الربانيّ الأخرويّ لن تكون لهؤلاء كرّة أخرى. لكن، في سياق خبرتنا العربية المعاصرة نعلم أن كثيراً من "المكوّعين" الذين خرجوا في شاشات التلفزة في خضمّ "الربيع العربيِّ" الموءُود، ذارفين الدمع أنهم كانوا مرغمين (أو مكرهين) على مولاة الطاغية، أو حتى مُغرَّراً بهم، أنه حينما أتيحت لهم كرّة أخرى عادوا أكثر لؤماً وانحطاطاً وتشبيحاً وتحريضاً على القمع والفساد وسفك الدماء. راجعوا كثيراً من مواقف هؤلاء في مصر وتونس وغيرهما من الدول، ما بين عهود أنظمة القمع، فالثورة عليها، ثمَّ الثورات المضادة.
هذا من حيث التوصيف والتقويم، ولكن، يا ترى، ماذا عن الطغاة وما ينبغي لهم أن يتعلّموه، إن كانوا يتعلّمون أصلاً؟ كيف يمكن لطاغية أن يثق بمن يتملقونه طمعاً بذهب السلطان أو خوفاً من سيفه، وهو يعلم أنهم جاهزون للانقلاب عليه مع أوّل تغيّر في موازين القوى؟... لقد خَبِرَ زين العابدين بن علي ذلك من قبل. وخبره أيضاً حسني مبارك، وعلي عبد الله صالح، ومعمّر القذافي، ثمَّ لحق بهم بشّار الأسد. وقد خبره قبلهم كثيرون، وقطعاً سيتجرع سُمَّه آخرون بعدهم. ترى، لو أتيحت الفرصة لمن فقد سطوته وصولجانه أن يعود إلى الحكم مرّة أخرى ماذا تراه كان فاعلاً بـ"المكوّعين"؟ وإذا كانت المصلحة تقضي بالحفاظ عليهم، فكيف سيعاملهم؟ مرّة أخرى، إن الطاغية لا يَعتبِر من قدرة سكرة السلطة في إعمائه عن رؤية الحقائق.
لا ترفعوا لـ"مكوّع" خسيسته، ولا تقيلوا لاعتذاريٍّ عن نظام مجرم عثرته
أمّا من زاوية "الشبّيحة" أنفسهم، و"المكوّعين"، سواء كانوا رجال دين، أم مفكّرين، أم سياسيين، أم فنّانين... إلخ، أترى تكون رسالة الدرس السوري وصلتهم أم لا؟ يشكّ الكاتب في ذلك، فحتى هؤلاء هم في سكرتهم يعمهون. إن الذي لديه قابلية أن يُطوِّعَ ما يراه ديناً أو مبدئاً أو موقفاً في سبيل مصلحته ومنفعته ينطلق من سجيّته الحقيقية وغريزته الطبيعية، ومن ثمَّ فهو سيبقى يتقلّب ويتلوّن حسب المعطيات المُستجدِّة مُتكيّفاً مع أيّ بيئة جديدة.
يقودنا هذا إلى موقفنا نحن الشعوب. التسامح لا يعني دوماً العفو والنسيان، والانتقام لا يعني دوماً البطش، بل قد يكون في الإهمال والازدراء والنبذ. لا تنخدعوا مرّة أخرى بـ"المكوّعين"، ولا تسمحوا لقنوات تلفزيونية، معروف من يقف وراءها في معسكر الثورات المضادّة، أن يلّمعوهم في وعيكم وضمائركم من جديد. لا ترفعوا لـ"مكوّع" خسيسته، ولا تقيلوا لاعتذاريٍّ عن نظام مجرم عثرته. دعوهم يختنقون بعار ذلّهم وانكسارهم، ولا تصدّقوا مزاعم توبتهم ولوا رأيتموهم متعلّقين بأستار الكعبة. ربّهم أعلم بنواياهم، إن أراد أن يغفر لهم في الآخرة أم لا فهذا شأنه، وأمره جلَّ وعلا، أمّا نحن فلا نحكم إلا على ظاهر أفعالهم، وكما تمتّعوا بشراكتهم مع الطغاة، فليدفعوا الآن، أو حين يحين السداد، ثمن جرائمهم.