سيرة حكيم حرب الشائقة

15 يناير 2024
+ الخط -

يروي الفنان الأردني، حكيم حرب، في كتابه "القبطان الذي ضلّ طريقه نحو المسرح" (الهيئة العربية للمسرح، الشارقة، 2023) سيرته الذاتية ممثلاً ومخرجاً وكاتباً مسرحيّاً، نذر عُمراً باكمله على الخشبة وكواليسها، في ذلك الفضاء العجائبي السحري الصعب الذي لا يُطعم خُبزاً في معظم الأحيان. يسرد علينا الحكاية من أولها بعذاباتها ومسرّاتها وأحزانها وإحباطاتها وإنجازاتها وإخفاقاتها. يأخُذنا في رحلةٍ لا تخلو من التشويق والإثارة إلى عالم المسرح الخفي، حيث تتحقّق عناصر الدهشة بالتواصل المباشر مع المتلقي. ويوثّق من خلال سيرته الشخصية مسيرة الحركة المسرحية الأردنية، وما طرأ عليها من تحوّلات منذ الثمانينيات. كان يحلُم بأن يُصبح قبطاناً مغامراً، يسافر في أصقاع الدنيا، يجوب البحار، ويختبر لذّة الاكتشاف، ويحظى بالحرية المطلقة كما يشتهي، غير أنه أدرك أن تحقيق ذلك بعيد المنال، فالدراسة في اليونان باهظة التكاليف، لذلك اضطر إلى التنازل عن حلمه، وقصد جامعة اليرموك، حيث بدأ بدراسة الاقتصاد وإدارة الأعمال، التخصّص الذي لم يحبّه قط. وجد نفسه مأخوذاً إلى أنشطة كلية الفنون الجميلة في الجامعة، وتعرّف إلى معلّمه ومرشده الروحي، المخرج المصري عبد الرحمن عرنوس، الذي شجّعه على هجر تخصصّه المملّ، والالتحاق بكلية الفنون، لأنه وجد في روحه حساسية الفنان المثقف الاصيل ورهافته وشغفه. 
تتلمذ على يد ذلك المبدع، صاحب الأثر الكبير على كثيرين من فنّاني الأردن، ويروي حكيم حكايات إنسانية حميمة كثيرة عن معلمه الذي أصبح صديقاً مقرباً ومثلاً أعلى في التفاني حباً في المسرح إلى حد التبتّل. ويستعرض حكيم مسرحياتٍ عديدةً قدّمها ممثّلاً وكاتباً ومُخرجاً في مسارح محلية وعربية ودولية، وكذلك الجوائز الهامة التي حصل عليها والمشاريع والورشات الفنية والثقافية التي اشتغل عليها، متحدّياً الصعوبات التي واجهها هو وزملاؤه من المسكونين بهاجس المسرح.
مسيرة فنية ثرية أضافت إلى المسرح الأردني الكثير، وحكيم حرب هو المثقّف الشامل المفتون  بشكسبير على نحو خاص. لم تخلُ رحلته المسرحية من المغامرة والتجريب، وقد طوّع، في كثيرٍ من أعماله، النصوص الكلاسيكية لتناسب اشتراطات الحداثة، فقدّم عروضاً استثنائية تعدّ، بحسب نقاد متخصّصين، علاماتٍ فارقةً في المسرح العربي، مثل مسرحية "المتمرّدة والأراجوز"، "هاملت يُصلب من جديد"، "ميديا"، وغيرها من أعمال متميّزة. كذلك ظلّت، على الدوام، قضايا أمته، وفي طليعتها قضية فلسطين، في خلفية أعماله مجتمعة، فحكيم من الفنانين المشتبكين بهموم الوطن، المتأثرين في الساحة العربية بأحداثٍ جسام، طرحها برؤيةٍ فنّيةٍ عميقة في مجمل أعماله، منتمياً إلى هذه الأرض التي قرّر، في لحظة يأس، الهجرة عنها إلى أميركا، غير أنه عجز عن المضيّ في غربته، فعاد سريعاً متلهفاً مشتاقاً عاشقاً وفياً إلى حضن المسرح، قدره ومصيره ومجاله الحيوي، ومع تنوّع تجربته المسرحية بين الغرائبي والفانتازي والواقعي والساخر، تظل تجربته في مسرح السجون الأكثر جُرأة، حين حمل على عاتقه مشروع تأهيل المساجين من خلال المسرح. ويصف حكيم التجربة بأنها من أهم وأثمن التجارب التي عاشها على المستويين، الإنساني والمهني، "بل والأكثر دهشةً، لما فيها من ثراء فني وإنساني ومعايشة لواقع حيّ وملموس، يزخر بالمواقف والحالات الحقيقية، والقصص الخام غير المستهلكة".
يشتمل كتاب "القبطان الذي ضلّ طريقه إلى المسرح" على جماليات كتابة السيرة، من حيث السرد الممتع والشائق والحميمة والعذوبة والصدق الفني، إضافة إلى كمّ المعرفة التي تضمّنها عن أهم نظريات فنّ المسرح، كذلك لم يغفل الجانب الإنساني، فأفرد صفحاتٍ عن مرحلة الطفولة والعلاقات الإنسانية التي كوّنها في فضاءات المسرح. وتقدم السيرة للقارئ رؤية الكاتب في الفن والحياة والقضايا الوطنية والإنسانية.  
تحيّة إلى الفنان حكيم حرب، وهو ينتصر، في سيرته الذاتية، لقيم الحقّ والجمال، ويشجعنا على مزيد من الشغف.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.