سماجة إسرائيلية وملتقى فلسطيني

14 مايو 2017
+ الخط -
ترتكب إسرائيل صلف القوة والقتل ونهب الأرض في احتلالها فلسطين، وترتكب السماجة أيضا، ليس بمعناها المعجميّ فحسب، أي القُبح والرداءة، وإنما التشاطرُ الخائبُ عطفاً. دلّ على حالها هذا، أخيرا، أنها أذنت لروائيين وكتابٍ وناشرين عرب بالدخول إلى فلسطين، دُعوا للمشاركة في ملتقى فلسطين الأول للرواية العربية الذي نظمته في رام الله وزارة الثقافة الفلسطينية الأسبوع الماضي، ولم تأذن لمدعوين آخرين، وأعطت إذنها لبعض المدعوين في أثناء الملتقى. وكأن دولة البغي والاحتلال توحي أن المصري محمود الورداني والأردنية سميحة خريس والمغربي أحمد المديني، وزملاء آخرين لهم، ليسوا خطرا على أمنها، فيما الأردني هزّاع البراري والكويتيان ليلى العثمان وطالب الرفاعي والمغربي ياسين عدنان والجزائري بشير مفتي ذوو خطورة، فلا تصرّح لهم بالدخول، أما الأردني إلياس فركوح والتونسيان شكري المبخوت وكمال الرياحي والليبية نجوى بن شتوان، وزملاء آخرون، فحيثيتهم الأمنية فيما يخص إسرائيل استوجبت وقتا مضافاً للتدقيق فيها. ونكون على سذاجةٍ بائسةٍ لو صدّقنا هذا التصنيف الذي تتولاه سلطة الاحتلال في فلسطين، فالذي تريده إسرائيل من سماجتها هذه أن تؤكّد البديهي المعروف، وموجزُه أنها وحدها صاحبة القول بشأن من يعبُر ومن لا يعبُر، مستضافا في أي مؤسسةٍ فلسطينيةٍ. ومن الحماقة أن يُقال، في هذا المقام، إن هذه الرسالة وصلت، لأنها معلومةٌ منذ خمسين عاما. 

لم يدخل واسيني الأعرج ومحمود الريماوي وحمّور زيارة وجمال ناجي وخالد الحروب ومها حسن وليلى الأطرش والحبيب السالمي، وزملاؤهم ممن شاركوا في الملتقى، إلى فلسطين من معبر الملك حسين، بتصريحات إسرائيليةٍ طلبتها وزارة الثقافة الفلسطينية، إلا لأن الجيوش العربية لم تحرّر فلسطين بعد، ولأن حال الفلسطيني محتلاً في أرضه لا يعني أن يمتنعوا عن التطبيع معه، والمساهمة في كسر عزلة ثقافية عنه يريدها المحتل، ودائما من دون ادعاءٍ بإنجاز أي انتصارٍ على إسرائيل. أما إذا رأى أي كاتبٍ عربي شبهة تطبيع فيما لو لبّى دعوة فلسطينية، فاجتهادُه محلّ احترام، على ألا يجد في رأيه هذا تمايزا وطنيا عن زملائه من الكتاب العرب ممن يبتهجون بدعواتٍ من فلسطينيين إلى بعض فلسطين. أما هناك، فالناس الذين يغالبون تجبّر المحتل الإسرائيلي في وطنهم يستقبلون الضيوف العرب، من الكتاب والفنانين في التظاهرات التي صارت عديدةً ومألوفة، بغبطةٍ، ولا ينشغلون بحديث التطبيع الذي صار متجاوَزا. وإذا كان كاتبان فلسطينيان أو ثلاثة (العدد ليس مجازيا هنا) يرون في المسألة تطبيعا مع إسرائيل، قناعةً لديهما (أو لديهم) أو مناكفةً منهما (أو منهم) مع فلانٍ أو علان، فهذه حيطان "فيسبوك" وغيرها متاحةٌ لهم، ولأيٍّ منا أن يمرّ على ما يكتبونه عليها باكتراثٍ أو من دون اكتراث.
زار الكتاب والناشرون الذين استضيفوا في الملتقى خيمتي تضامن مع الأسرى المضربين في رام الله وقلقيلية، وجالت عيونُهم على جدار الضم العنصري وعلى مستوطناتٍ عديدة، وخضعوا للتفتيش الإسرائيلي والقرف المتعب ساعاتٍ عند عبورهم، وعاينوا حواجز العذاب، وفي ذلك كله وغيره، لم يكونوا "يتفرّجون" متعاطفين مع شعبٍ من الأزتيك، وإنما يزورون شقيقهم الفلسطيني الذي لا ذنب له أنه محتلٌّ حتى لا يستحقّ الزيارة، وكانوا أيضا يختبرون فلسطين الواقع ومدى مغايرتها فلسطين المتخيّلة في مداركهم. قاموا بذلك كله، كما أفادت متابعاتٌ إعلاميةٌ غير قليلة، دلّت على نجاحٍ طيبٍ لملتقى الرواية نفسه، والذي تقاطع مع مشاغل ملتقيات ومؤتمرات عقدت عن الرواية العربية، واختلف عنها في مشاغل أخرى، وقدّم مشاركون مساهماتٍ مهمةً فيه (الرواية والثورات والحروب، تحوّلات المكان،... إلخ)، واستُمع في الأثناء إلى شهاداتٍ رائقةٍ من روائيين مجرّبين. وبذلك، تآخت رام الله، العاصمة المؤقتة لفلسطين، مع مدنٍ عربية عديدة، اعتنت بالسؤال الثقافي العربي العام، والإبداع الأدبي خصوصا، ما عنى أن جهدا في كسر عزلة الفلسطينيين في وطنهم عن عمقهم العربي قد نجح، وأن تلك السماجة الإسرائيلية بدت تفصيلا في غضون الاحتلال العويص، وأن لمن يستطيب مواظبة الحكي عن التطبيع أنْ يفعل، فليس على الكلام جمرك.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.