سعاد العامري مع ليلى الشايب
أول ما يأتي إليك، عند مشاهدتِكَ أيا من حلقات برنامج "لها الكلمة" على شاشة تلفزيون "العربي 2"، أن القوسَ أُعْطِيَت لباريها، فالإتقان الجذّاب فيها، المادّة والمحتوى، والصور الحيّة، والإخراج، وتنويعات المؤثّرات البصرية، ومختلف المفردات التلفزيونية، والعين الجوّالة في غير مكانٍ وفضاءٍ وزاوية، والأُلفة البادية مع التفاصيل، ذلك كلّه (وغيرُه) يشدّ حواسّك إلى ما تشاهد وتسمع، وإلى ما تتباسط معه على الشاشة. وبذلك، التحيّةُ مستحقّةٌ لفريق البرنامج، إيلي عرموني وجوزيفين حبشي وزملائهما. أما ليلى الشايب، مقدّمة البرنامج ومحاوِرة ضيفاته، فقد دلّت فيه، مجدّدا، على اقتدارِها الذي خبرناه منها في غير تجربةٍ تلفزيونيةٍ لها، وأظنّها تضيف إلى رصيدها مذاقا خاصّا في هذا البرنامج النوعي في تقديم وجوهٍ نسائيةٍ عربية، من صاحبات الإسهامات والإنجازات والعطاءات في غير حقل. وخلاصاتٌ غزيرةٌ في الوسع أن ينتهي إليها من شاهدوا "لها الكلمة" (18 حلقة حتى الأسبوع الحالي)، ربما أهمّها أن في مقدور المرأة العربية، الطموحة والموهوبة، أن تُبدع وتتألّق، إذا ما تيسّرت قدّامها فرصٌ عادلة، وإنْ للكفاءة الفردية أهميّتها الخاصة، والحاسمة.
للسطور أعلاه عن البرنامج وفريقِه ومقدّمته ضرورتها، قبل أن يُفضي صاحب هذه الكلمات بغبطتِه بما سمع وشاهد في حلقة الثلاثاء الماضي، وقد استضافت فيها ليلى الشايب المعمارية والناشطة والروائية والحكّاءة (الحكواتية؟) والأستاذة الجامعية، الفلسطينية سعاد العامري (1951)، حاورَتْها، ودردشت معها، وجالت معها في بعض بيروت، وتحدّثتا اثنتاهما قدّامنا، نحن نظّارة "العربي 2"، في الجامعة الأميركية وردهاتٍ وممرّاتٍ فيها، الجامعة التي قدِمت إليها سعاد من عمّان، لدراسة الهندسة المعمارية. حكت الضيفة عن أساتذةٍ (بأسمائهم) درّسوها هناك في مطالع السبعينيات. وكان بديعا منها أن تلحّ هنا على الفن في العمارة، لا باعتبارها هندسةً فقط، وقد توطّن هذا في مداركها، وأخَذها إلى المشاغل التي انصرفت إليها، في دراساتها العليا لاحقا في الولايات المتحدة، ثم في مشاركتها في تأسيس قسم الهندسة المعمارية في جامعة بير زيت (في فلسطين)، في أثناء إجازةٍ بلا راتب من عملها في الجامعة الأردنية (في عمّان)، ستة شهور صارت أربعين عاما (كما أخبرت ليلى وأخبرتْنا)، فقد استقرّت في فلسطين، وتزوّجت من زميلها المؤرّخ الفلسطيني، سليم تماري. وتاليا، في أثناء حظر التجوّل الذي فرضته إسرائيل إبّان حرب تحرير الكويت في 1991، كتبت مسوّدة مشروع تأسيس مركز المعمار الشعبي (رواق)، الذي يعدّ من أهم المشاريع المبتكرة، في ترميمه مباني متقادمةٍ في قرى وبلدات ومدن فلسطينية عديدة.
ومما التقطته ليلى الشايب، في مسيرة سعاد العامري، وجاءت عليه في أسئلتها الطّلْقة، ذلك الشغف بالعمارة فنّا، وذاكرةً للناس في معيشهم، وهو ما جذبَها إلى الاهتمام العلمي والتاريخي والجغرافي (والاجتماعي بداهةً) بالموروث الثقافي المعماري الفلسطيني الذي كان موضوع أبحاثها في الدراسات العليا في أميركا وأدنبرة، وأصدرت فيه عدة كتب، كما نشر "رواق" كتبا توثيقيةً عظيمة القيمة فيه. ومن فضائل سعاد العامري أنها، وزملاءُ لها، ساعدت على تدريب كفاءاتٍ وقدراتٍ من أجيالٍ جديدة فيه. والظاهر أنه لولا فائض شغفها بالعمارة القديمة في فلسطين، لما أبدَعت صاحبة "مُراد مُراد" في هذا الحقل.
شغفٌ من جنس آخر تملّك سعاد العامري، كان بالغ الأهمية في الحلقة التلفزيونية أنها مرّت عليه، شغف الضيفة بالحكي، بالسرد المتتابع، بالقصّ. ولا أظنّني جازفتُ في حماسي في كتابتي في هذا المطرح في "العربي الجديد" عن رواية "دمشقي"، من فرط ما نمّ هذا النص (المكتوب أصلا بالإنكليزية، كما غيره من مؤلفات العامري) عن موهبةٍ عاليةٍ في استيلاد الحكايات من الحكايات، وإنْ من ذاكرة الكاتبة عن سيرة جدّيْها لأمها، وخالاتها، لمّا كانت في بواكير صباها الأول في دمشق. قالت العامري لليلى، ما كانت قالته غير مرّة، إنها اكتشفت نفسَها كاتبة قصصٍ وحكاياتٍ بعد تدويناتها التي صارت كتابا حاز مقروئيةً عالية (بعدة لغات) "شارون وحماتي"، غير أننا، نحن قرّاءها، سُعِدنا بسرودها التالية في غير كتاب ("غولدا نامت هنا"، مثلا)، وسُعدنا بما دردشت فيه مع ليلى الشايب عن أسرتها، وأمها الشجاعة ووالدها الأريب (لم تُخبرنا على الشاشة بأنه وزير، وأول رئيس لرابطة الكتاب الأردنيين)، وسُعدنا من قبلُ ومن بعد، ببرنامجٍ باهظ القيمة على شاشة "العربي 2"، اسمُه "لها الكلمة".