روائح المدينة وروائح الغيطان
كأن تمرَّ على قريةٍ صغيرةٍ جدّاً من بيوتٍ صغيرةٍ فوقَ سنِّ جبلٍ من دون أن تنتبه أبداً لروائح الياسمين في تعريشات شجرها، وكأن تمرَّ على قريةٍ من بيوتاتٍ قليلةٍ على جرفِ ترعةٍ صغيرةٍ والأغنام مُسترخِيةً في الظهيرة أسفل ظلالِ أشجار السنط، فيأخذك الفرح بالشوف من دون أن تنتبه لروائح الغنم، لأنّك أيضاً في سعادةٍ شاعريةِ المنظرِ ومسافرٌ، أمّا ما لا تنساه الأرواح المُتعَبةُ، فيظلّ محفوراً في ذاكرة تستظلُّ بأشجار تعبها من غير نسيان.
أقصد بالمدينة تحديداً مدننا، التي نعرفها بعلاماتها الحادّة والجارحة وروائح الأسفلت، وهل للأسفلت رائحةٌ سوى ذلك الصهد المكتوم أمام المحالّ الغريبة، التي تتغيّر كلّ يوم من دون متعةٍ سوى الجري وراء الكسب والرزق، وهل بقيت أيضاً هناك روائحُ تلك الحقول التي حامت حولها قلوبُنا، حقولُنا، تلك التي مازالت بقاياها، بعد ما جرى عليها الخراب أيضاً، في ذاكرتي، وخاصّة روائح حافَّات الترع وحولها نباتات الحلفاء أو الهيش أو نباتات الغاب المُهمَلة، أو روائح البساتين المُعتنَى بها من أصحابها المستورين، ويطلُّ من خلف أسوارها الطينية الوردُ أو سبائطُ البلح الملوَّنةِ وأبراجُ الحمامِ، أمّا تلك الحدائق التي كنّا نشمُّ من حولها روائحَ أشجار السنط كثيرة الأشواك، فغالباً كان أصحابها في خوف على أعناب البستان من هؤلاء اللصوص الصغار، وخاصّةً ونحن نستمع لأصوات أولاد الخفراء داخلها وهم يهشُّون العصافير عن عناقيد العنب بالضرب بالعصي على الصفائح، ونحن هناك نضحك ونشمُّ روائح أشجار السنط، ونكشط الصمغ عن الشجر للكراريس.
كانت الشباكُ المصنوعة من الجريد والخيوط نائمةً لليمام في خفاءٍ ما بين غيطَي عبَّاد الشمس والعنب، هي شباكٌ لصيد اليمام بواسطة الفقراء والعاطلين من العمل، والعصافيرُ قبل المغارب يستطيب لها مذاقُ العنب، حتّى وإن أغرت أقراص عبَّاد الشمس، بألوانها الصفراء، عيون العصافير، حتّى يكتمل المشهد بعد شبَعِها من الأعناب حينما تغطس الشمس في المغارب هناك، مع عودة الفلَّاحين بالبهائم إلى البيوت، والأغنام تُحدث جلبتَها في الطريق بغبارها وروائحها، مع عودة الفقراء من صيادي اليمام بالشباك مع عددٍ من أزواج اليمام حُبِسَ في قفصٍ من جريدٍ تمهيداً للبيع، ولا ينسى الواحد أبداً نظرات اليمام في القفص.
تُغريني الروائحُ، رائحةُ عيدان الشامي، وخاصّةً إذا كان في جانب "الخطّ" الآخر أو "الريشة" في الغيط عيدان ثوم نابتة وقد كبرت في الوقت نفسه، كاستغلال من الفلاح للخطّ الواحد لجني محصولَين، فيكون الأنف مع روائح الثوم النابت، ومع روائح عيدان الشامي معاً، بحريرها، ومع روائح الطين ما بين الخطوط، حينما يسري الماء هيّناً ملاطفاً منابت عيدان الشامي وعيدان الثوم معاً، أمّا أشجار الجوَّافة فلها رائحةٌ فضّاحةٌ تجذب اللصوص وغير اللصوص من العيال الأشقياء، أمّا روائح القطن بعد الفجر بساعة في آخر الصيف، ومع لسعات الندى، فأمرٌ له ذكرى السعادة والشقاء وقد امتزجا في كيان العمل، مع سعادة القطن والفرح باللوز قبل بدء الدراسة بأسبوع أو اثنَين، مع رائحة القماش الدمّور على الأبدان العرقانة، مع روائح الطاطورة وعنب الديب، وآه لو جاء الغناء من هناك! من فم فقير معذّب بالهجر الخيالي، وردَّ عليه الهواء بنسمةٍ في منتصف النهار، أو آخره، حينما يأتي القبّاني بميزان القطن الطويل، حينئذ تكون غمزات البنات الحلوة، وكركرات حناجرهن، التي تشبه النداء المحبوس والعطر، وإن لم يكن في الأصوات عطراً. حينئذ، يطيب الغرام للنسيم، ويُعيد الكرّة على عيدان الغيطان، ويبتسم القبّاني وهو مع الميزان والأرقام التي يُسجّلها في دفتره، ثمّ يركنه في جيب الصديري، ويمشي بميزانه وسط الحطب فوق حماره، وتبدأ روائح الشاي المغلي فوق الحطب في البرّاد، وتشمَّ روائح الدخان التي يغلبها السرور، وكركرات البنات فرحاً بما أهداه صاحب الغيط من قطن في آخر اليوم، فأين ذلك كلّه ممّا تراه حينما تمشي وحيداً في مدينة لا ترى فيها مدينة؟