عندما يعود الدكتاتور يتيماً

19 ديسمبر 2024
+ الخط -

هو من الأصل كان يتيماً من الأحبّة الحقيقيين، فصنع من يتماء آخرين جمعاً من اليتماء للحكم. اليتيم كما يأخذ يُعطي أيضاً، والبلاد واسعة، وأصحاب الطلب تحت الطلب في أي وقت، وخيول الحكم جيدة جداً في توصيل الطلب وفي الحرب أيضاً وجلب المنافع، فما بالك بحاكم ملكٍ وعن يمينه عود يطرب؟

تمرّ السنوات عليه وكأنها هكذا قد طابت له تماماً، إلى أن يصير يتيم المحبّة نزقاً وقاتلاً ومجرماً، ويستطيع أن يخلق من صيغ فضلات المعارف والحكم والفلسفات جُملاً مغلقةً لزوم البرود والاستمرار في باقي المهزلة، والناصحون كثر وعلى قارعة الطرق، وأحياناً بلا أجر. حينئذٍ تتقارب الأشياء كلها في كفّ يده، ويصير الكفّ هو مساحة البلد وخزينة البلد وماء البلد وشريان البلد وإعلام وإذاعة وتلفزيون البلد، وكل شيء في البلد قد صار أيضاً في مساحة الكفّ، كفّ محاط بالأسلاك والمخاوف والقوانين والدساتير التي تفصّل من أجله. حينئذٍ، يصبح اتساع الملك حلواً وطرياً، وعلى مقاس صاحبه حتى آخر نفس من الحياة، لولا ما يعكّر على الدكتاتور من طيب طربه، فيصنع الحرب أو يغيّر الدساتير أو الوزارة أو الخليلة أو الزوجة، إن استطاع أو بعض الأسلاك الشائكة حول معسكراته أو سجونه، وإن عجز يأتيه المثقف أو يأتي به. وبالطبع، يكون الممثل موجوداً حتى من غير طلبٍ مع الممثلة والشاعر ومعه قصيدته والملحّن في الأعياد وفي غير الأعياد، وإن احتاج الأمر للسفر خارج البلاد، فالأتباع على ظهر الطائرة مع الكاميرات وأوراق الدشت، حتى إن أخذ معه الخيمة أو النخلة أو الحصان أو البغلة أو صقوره للصيد من بلاد الفرنجة. المهم أن يكون بسيطاً وباسماً وملابسه على آخر صيحةٍ ويفكّ من تكشيرة وجهه، فالتكشيرة لشعبه فقط، وإن استطاع في يومين أن يزيل زبيبة الصلاة فمن الأجمل.

الدكتاتور تُقدّم له الأمنيات بملعقة من ذهب على راحة اليد، واليد وقد صارت قادرة على كل شيء، بناء السجون في أسرع من زراعة الورد أو الريحان أو النخيل أو القمح أو المدارس أو المستشفيات أو مزلقانات السكة الحديد.

الدكتاتور صناعة يضرب فيها كل عارف بسهم، ابتداء من صانع مفاتيح المخازن أو السجون حتى منسّق الحدائق ومدرّب الخيول أو جالب العسل من الجبال وصانع أدوات التعذيب، مروراً بالمايسترو في دار الأوبرا ورؤساء الأندية الرياضية وقارئة الفنجان السيدة حميدة الكعبرية حتى ناقشة الحناء في غرف الفنادق السبع نجوم، ولا تنتهي أبداً بالخدم أو الشماشرجية أو موظفي التشريفات والبروتوكول.

الدكتاتور مسكين جداً، لأنه يحتاج بحقّ إلى هؤلاء كلهم في كلّ لحظاته، خاصة قارئة الفنجان السيدة حميدة الكعبرية، ولا مانع من جلبها حتى من السنغال أو ساحل العاج أو زنجبار، ويعطى لها جواز سفرها في المطار، وإن ماتت في الطريق، فقد وقع أجرُها على الله، وهي من الشهيدات بإذن الله بشهادة الفقهاء على مختلف مذاهب الأئمة.

لا بد أن يتزوّج الدكتاتور فتاة حسناء، ولا بدّ أن تتعلم اللغات في أقل من سنة، ويكون لها "حنطور" بسيط للنزهة، حينما تريد أن تكون بسيطة وغير مطعم بالذهب بالطبع ولا تذهب إلى ملعب الجولف يوم الجمعة احتراماً للمشاعر، وإن كتبت الشعر أو الغزل سراً، فلا بد أن يترجم للغات الحية احتراماً لمشاعرها حتى إن كان بالأشعار نزقاً شبابياً ما، واعتبار ذلك من ترسّبات مرحلة المراهقة التي يعرفها نقّاد الأدب جيداً. لا بد أن تكون للدكتاتور أيضاً خلية عسل نحلٍ يجمع عسلها من الحديقة بنفسه، ولا مانع لو تذوقه وزير خارجية من بلد شقيق أو أجنبي غربي على سبيل الضيافة، هكذا لا بد أن يتباسط الدكتاتور أمام أشعة الشمس والكاميرا والضيوف، حتى إن صدرت منه بعض كلمات الغزل أمام عيون الكاميرا لمذيعةٍ أو مخرجة.

لا بد للدكتاتور من بعض الحكم الشرقية، حتى إن كانت من فم بوذا نفسه، وبعض الجمل التي تؤشّر إلى التبحّر الاقتصادي، كمنتج الحقل أو عائد البيدر. هكذا، فالدكتاتور أيضاً يقرأ ولا يعيش كما يتصوّره الناس داخل حمام سباحة، ولا يغطس يومياً في بركةٍ من العطر كما يُقال، فالرجل يحمل على ظهره عناء سنوات، كي يخرج البلاد من كبوتها، وأحدهم قال أبحرت في دراستها خمسين سنة، فكيف يقترب منها عيّل في يوم وليلة؟ كيف؟