في الحب... المعاني مراوغة والأبواب مواربة

26 ديسمبر 2024

(أحمد ناباز)

+ الخط -

لا حكمة لمحبّ، ولا نهاية أكيدة في قولٍ يقوله، هو في كل يوم أو ساعة في شأن، لا حيلة له في استمرار وصل أو قدرة على قطيعة، حتى وإن كانت الأسباب في وضوح الشمس، لأن المعاني دائما تأتيه مراوغة، أو هو يراها أو يجعلها هكذا، والأبوابُ تكون مواربة، أو هكذا يراها ويجعلها هكذا، كي يظلّ دائماً ما بين الهنا والهناك، ما بين الخصومة والرضا.
الحبُّ لغزٌ مغلق على أصحابه، حتى وإن كتبوه في روايةٍ أو بحثٍ أو ديوان شعر أو قطيعة أو انتحار أو ألجموه بالزهد وهجروا أماكن محبّتهم، إلا أن معانيه تظل هناك مراوغة وأبوابه مواربة ولو من بعيد.
فجأة تجد نفسك في موضع السؤال من فلانة، أو تسأل أنت عن فلانةٍ ما تعودت من قبل أن تسأل عنها، فيكون القرب، هل في المحبّة وهمٌ ما، وهمٌ جميل يجعلنا أنقياء وتابعين لذلك المحبوب الذي ظهر وأخذ مكانه شيئاً فشيئاً بداخلنا، فأين كان قبل ذلك، وهل كنت أنت فارغاً إلى هذا الحدّ حتى تحس بذلك الامتلاء المبهر؟
قال سقراط على لسان هولدرين معرّفاً الحب: "إنه رغبة في شيء لا نملكه"، فما الذي جعلنا بفرح وقد صرنا كضيوف فرحين على ما لا نملكه؟ هذا الملك الذي يشبه "قبض ريح"، كما عبّر عنه الملك سليمان واصفاً الدنيا، فكيف يغري قبض الريح هذا منازل العشّاق منذ بدء الخليقة، وكان ذلك سبباً في بداية القتل على ظهر الأرض، وكل يوم تتجدّد أسطورة الحب في الأغنية والأوبرا والرواية والشعر، حتى وإن امتلأت أقسام الشرطة والمحاكم بالعشّاق والمغرمين.
لم يكف الحب عن الإعلان عن نفسه في كل ساعة من ساعات البشرية على ظهر تلك الرغبة، كيف استمرّت على ظهر الكوكب بكل توهجاتها في الأساطير والحكايات والمرويّات والسير وأفواه العجائز وصعاليك الغرام والمبتلين؟ هل كان سقراط حكيماً حد القسوة على القلوب أم كان رهيفاً وغير كاذب أو مائعاً، وهل تجريد المعاني في عالم الفلسفة يقضي على وهج الحسيّات تماماً، وهل النظرة الفلسفيّة حينما تجور على عقل صاحبها تصير الفلسفة نفسها، كما قيل، لديه هي الحبّ الحقيقي مجرداً داخله من دون التورط في أحداثه أو فوضاه وفيوضاته؟ فلماذا تحمّل المتصوّفة نار محبّتهم تحت ضلوعهم حتى وإن فارقوا المحبوب، وطافوا وراء أحوالهم وأسفارهم البعيدة؟
هذا الخضوع الجميل في الحب والذي لم تقدمه لصاحب عمل أو مدير أو حتى للأب أو الأم أو لظالم أو لشيخ يعلمك أو لأستاذ أو حتى لقاطع طريق أو قاتل، كيف يأتي ذلك الخضوع للمحبوب في سماحة وكرم وحنو وأحياناً يختلط المشهد كله بالدموع، حتى وإن كانت كدموع التماسيح، إلا أنها تفي المحبوب كرمه وهديته، هل هذا الخضوع هو كرم المشاعر، وليس كرم الأغنياء أو الملوك، كرم من القلب للعين أو من العين للقلب أو من اليد لليد مباشرة حتى دون وعي بقيمة الهدية أو العطاء، كرم تشهده الروح وتشهد عليه سواء استمر الحب أم حدثت القطيعة وأعدنا الكرة مرة أخرى لأنه من المستحيل أن يصير القلب صحراء أو تصير العيون كأحجار؟
هل نحبّ كي نجمّل حكاياتنا على الأرض، لأن الحب هو الجمال الوحيد الذي يزيّن الأرواح في ذلك العالم حتى وإن أخطأنا في ما بعد أو رحلنا، وهل لذلك تكون كل معانيه شبه غامضة وأبوابه كلها مواربة حتى في الوداع، هل الوداع هو تتمه الحب اللازمة والذي لولاه ما كان الحبّ حباً، بل كان كما يحذرنا سقراط من فعله، وهو أن نرغب في شيء نضيفه إلى ممتلكاتنا ونجعله لنا كالأولاد والبيت والسيارة والجائزة والوجبة الساخنة وحساباتنا البنكية وأسلحتنا التي تحمينا ليلاً من اللصوص؟
يريد سقراط أن يجعل من الحب كمقدّس ما غير مملوك، كورقة لا يملك مصيرها سوى غصنها وذلك العصفور الذي يقترب منها ثم يطير. في الحب نحلق فوق معنى منتظر، معنى يتبدل كل يوم كما يتبدل شكل الوردة فوق غصنها من ساعة إلى أخرى، معنى لا نسعى إليه ولا نعرفه، وكأن الحب هو معنى نفسه معزولاً عن كل القيم الأخرى التي نتباهى بها خلال أعمارنا، ولذا دائماً يكون الفراق، وكأنه هدية للمحبين، ضعفاء أم أقوياء، كي يمشوا بقية الطريق إلى آخره.