ركاكة النظام العربي... 2023 نموذجاً
لم يستطع بشّار الأسد أن يكتم سرورَه بالزلزال الذي نَكَب أربع محافظاتٍ في سورية في فبراير/ شباط الماضي، فقد ظهر، بعد أربعة أيام، يوزّع الضحكات في حلب التي زارها (وزوجتُه)، ويأخُذ صوراً (سيلفي) بين من هيّأتهم السلطة للابتهاج بقدومه إليهم، وقد أذيع إنه جاء لتفقّد آثار الزلزال، وهذه في الوُسع أن يُقال إنّ منها عبور الأسد خطواتٍ متقدّمةً باتجاه إعادة تأهيله في النظام الرسمي العربي، وحصده منافع سياسيةً من الكارثة، فقد تسارع هذا الممشى، ليس فقط بتقاطر السّفراء السوريين إلى مكاتبهم في غير عاصمةٍ عربية، وإنما أيضاً بتمثيل الأسد سورية في القمّة العربية بالرياض في مايو/ أيار الماضي، والتي حدَّث مستمعيه فيها عن "الانطلاق إلى مرحلةٍ جديدةٍ من العمل العربي المشترك". وقد دلّ الحبور العريض الذي بدا عليه الأسد إبّان الزلزال، ثم كلمته في القمّة العربية الإسلامية بشأن العدوان الإسرائيلي على غزّة، في الرياض في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وشوهد فيها يقول إن القضيّة ليست غزّة وإنما فلسطين، دلّ هذا كلّه، معطوفاً عليه التطبيع مع تصنيع أجهزة الأسد مخدّر الكبتاغون وتصديرِه تهريباً إلى الأردن والخليج، على ركاكة النظام العربي الرسمي، في واحدةٍ من تجليّاتها المنكشفة في العام الذي انقضى، 2023.
ثمّة شواهد أخرى، غير المقطع السوري، على ركاكة النظام العربي الرسمي المتجدّدة، عُوينت في العام المنصرف، ففي الجوار اللبناني، حوفظ على التقليد العتيد، أي الحاجة إلى سنواتٍ، ثلاثٍ أو أقلّ أو أكثر، لاختيار رئيس للجمهورية. وفي السودان، لم يبدُ أنّ أيا منّا كان في حاجةٍ إلى أن تندلع الحرب الأهلية التي اندلعت ضَروساً، بين الجيش ومليشيا حميدتي، في إبريل/ نيسان الماضي، ليستدلّ على ركاكة الدولة والنظام معاً في هذا البلد، فالسابقاتُ من الحوادثِ هناك كانت تهيّئ للمتقاتلين ساحات المعارك وزواريبَها، حتى صِرنا أمام ركاكةٍ من صنفٍ أشدّ شناعة، لمّا بلغت جرائم النهب والسطو، وفظاعات الاغتصاب، ويقترفهما عناصر المليشيا، مدىً من العسير أن تظفرَ بنعتٍ له. أما ركاكتا السلطتيْن في تونس ومصر، في العام الذي غادرْناه، فقد دلّتا على أنّ الرّدّة إلى أنظمةٍ أكثر تسلّطيةً من التي أبعدتها انتفاضات الربيع العربي وثوراته واحدة من مقاصد الثورات المضادّة، وهي تعمل على تحطيم حلم الشعوب العربية وشبابها، الخلاص من الاستبداد. ولذلك، تُقرأ الانتخابات الرئاسية المصرية، وتاليتُها الانتخابات المحلية التونسية، في خواتيم العام، بأنهما واقعتان موصولتان بكل الممارسات التي أريدَ منها تتفيه السياسة، وتمويت كل أملٍ بنهوضٍ، أو انبعاثٍ، كان مأمولاً في صيحات مصريين وتونسيين كثيرين في الثورتيْن المجيدتيْن في ميدان التحرير وشارع الحبيب بورقيبة.
أمّا المذبحة الإسرائيلية النشطة في قطاع غزّة، فواحدة من نواتج كثيرة لها الركاكة المشهودة التي يقيم عليها النظام الرسمي العربي، وهو يستهلك مفردات الإدانة والأسف والأسى، فلم يعد يتوفّر على مزيدٍ منها، وقد ظنّ أنه بها يأتي بالذئب من ذيلِه، فيما القاتل الإسرائيلي يواظب على أداء مهمّاته في البريج والشابورة وجباليا وخانيونس وبيت لاهيا ودير البلح، وكل مطرح في القطاع، مسنوداً، في وحشيّته، بإسنادٍ من الولايات المتحدة التي كشفت، للمرّة المليون على الأقل، أن لا علاقات صداقة تجمعها مع أي حكمٍ عربي، وأن الانتصار لحليفها الإسرائيلي يتقدّم على أيّ اعتبار. وبدا، في الغضون، أن أنظمة التطبيع العربي لا تملك أن تُزعج الصديق الإسرائيلي بشيءٍ يخدِش العلاقات السياسية والتجارية وغيرهما معه. كان في وُسع النظام العربي، في مصر مثلاً، أن يفعل الكثير، لكنه لم يفعل، لإلزام حكومة القتلة في تل أبيب بوقف فظاعاتها اليومية في فلسطينيي غزّة. لقد بدا شديد الركاكة، محدود القيمة والمكانة، أمام الشعوب العربية، وأمام العالم كله. وهذه شاحناتُ المساعدات الوفيرة، تنتظر في العريش ورفح المصريّتين، الإذن الإسرائيلي، للعبور إلى الجوعى والمكلومين والجرحى في القطاع دليلٌ، واعتصام كل الدول العربية عن صنيع جنوب أفريقيا، مقاضاة إسرائيل في محكمة العدل الدولية، دليلٌ آخر.
في الأول والأخير، أكّدت الركاكاتُ أعلاه، وغيرُها بداهةً، المؤكّد والمعلوم قبل 2023 وبعدها.