رضا أكبري وأندروبوف والآخرون

06 مايو 2023
+ الخط -

مثيرة قصص الجواسيس الكبار الذين يشكل تجنيدهم اختراقًا ذا أهمية استثنائية، ووراء الإثارة، في حالات كثيرة، أبعاد أعمق غورًا من الظاهر المثير. قبل أيام، كشفت صحيفة نيويورك تايمز بعض تفاصيل تجنيد المسؤول الإيراني الرفيع رضا أكبري، بعد إعدامه. شغل مناصب عسكرية رفيعة في الحرس الثوري الإيراني، آخرها نائب وزير الدفاع، وفي إبريل/ نيسان 2008، كشفت بريطانيا لإسرائيل عن تَمَكُّن استخباراتها، منذ 2004، من تجنيده. وقد قدَّم سنوات معلومات وُصِفت بـ"الحاسمة" في إزالة أي شك لدى الدول الغربية عن طموحات إيران النووية العسكرية. والعبارة التي تتكرّر حرفيًا في كل التقارير الصحافية عن القصة إنه عاش "حياة مزدوجة". وشأن آخرين، ارتدى أكبري قناع المتعصّب الديني والصقر السياسي!

والمخاطر التي تنطوي عليها سهولة إنتاج الخطاب المتشدّد والمواقف المتطرفة وسهولة الاختباء وراءها، وخصوصا في النظم الاستبدادية، والحركات الثورية أيضًا، خطر قديم/ جديد. وبالعودة إلى أرشيفي الشخصي، استعدت مقالًا أعتبره مما يَصعُب نسيانه، كتبه السياسي الفلسطيني بسّام أبو شريف، ويحكي في مقاله قصة نصيحة متكرّرة لطالما قدّمها الرئيس السوفييتي الراحل يوري أندروبوف، منذ كان رئيسًا للمخابرات في بلده (كي جي بي): "تجربتنا مع الأحزاب الشيوعية في كل مكان ومع حركات التحرّر الوطنية أعطتنا درسا لا ينسى. كلما ظهرت حركة داخلية متطرّفة داخل حزب أو حركة تحرّر تُرفَع فورًا علامة استفهام حولها. ووجدنا في كل الحالات أن المخابرات المعادية، خصوصا الأميركية، كانت وراءها، أو وراءها عبر جهاز آخر غير أميركي". ("أندروبوف قال للفلسطينيين: احذروا دائما من المتطرّفين، بسّام أبو شريف، الشرق الأوسط اللندنية، 2/1/2001). والمعنى نفسه عبَّر عنه، مع اختلاف في التفاصيل، رجل الاستخبارات الأميركي آلان دالاس في كتابه "كنت رئيسًا للسي آي إيه".

مؤكّد أن التعميم ينطوي على خطأ كبير، فليس كل متشدّد ينبغي الاشتباه في ولائه. لكن للظاهرة شواهد كثيرة في التاريخ السياسي الحديث، اختبأ فيها "متسلقون" وراء قناع الصقور، ما ضمن لهم صعودًا سهلًا في بِنَى سياسية لا مكان فيها للارتقاء بمعايير الكفاءة. وبالعودة إلى ما نشرته "نيويورك تايمز"، كان أكبري "طموحًا للغاية، ومحللاً ممتازاً يتمتع بمهارات فائقة"، وهذا درس آخر مهم، فبعض أصحاب الكفاءة عندما يعيشون تحت حكم أنظمة مغلقة لا مكان فيها للترقّى إلا لـ"أهل الثقة" لا يكتفون بالخداع ليصعدوا وظيفيًا، بل قد يدفعهم تجاهل الكفاءة إلى أن يبرّروا لأنفسهم كل شيء حتى الخيانة سلوكا انتقاميا من هرم وظيفي يتجاهل كفاءتهم. وفي تاريخ بعض حركات اليسار العربي، وفي حركات إسلامية عديدة، زرع "صقور" مزعومون خرابا كثيرا، لم يكن ليمر إلا في حراسة الشعارات النارية.

الاستخبارات الروسية هي التي كشفت رضا أكبري للإيرانيين، فاستُدرِج إلى طهران وحوكم وأُعدِم

وبحسب ما كُشِف عنه، سلم أكبري للبريطانيين معلومات عن أكثر من مائة مسؤول إيراني كان عملهم "سرّيًا"، وأبرزهم محسن فخري زاده، كبير العلماء النوويين الذي اغتالته إسرائيل في 2020. وما قدّمه أكبري من معلوماتٍ غيّرت "بشكل جذري موقف المجتمع الدولي تجاه إيران". ورغم أن ما فعله أكبري هو في النهاية "خيانة عظمى"، إلا أنه يظلّ نموذجًا للدور الكبير الذي يمكن أن يقوم به "الفرد" في مسار التاريخ، وفي كل نظام سياسي "أسرار دولة" يحميها أفراد، أو يملكون قدرة الاطّلاع عليها. وبالتالي، لا تستطيع دولة في العالم حماية أمنها القومي إلا بـ"أفراد" مؤتمنين، حيث التقنية، في أكثر أجهزة الاستخبارات تَقدُّمًا، لا تصنع الأمن وحدها.

والمعلومة الأكثر أهمية، سياسيًا في القصة، أن الاستخبارات الروسية هي التي كشفته للإيرانيين، فاستُدرِج إلى طهران وحوكم وأُعدِم. والمواجهة الإيرانية/ الغربية تحوّلت في بعدها الاستخباراتي، الأكثر حساسية، إلى لعبةٍ غربيةٍ روسية، فلولا الدور الروسي لبقي أكبري، على الأرجح، يتعاون مع الاستخبارات البريطانية، وهو مجرّد نموذج للخطر الذي يتهدّد سيادة عديد من دول الجنوب، في ظل معطيات حروب الاستخبارات العالمية.

ما يمكن تعلّمه من قصة الكشف عن الحياة السرية لرضا أكبري جرس إنذار أحسب أن من الحكمة الاستماع له واستيعاب دروسه، حيث يمكننا رؤية آخرين في مرآتها.