مهزلة أن تحرس الصهيونية الحضارة

07 يونيو 2024
+ الخط -

مرّة ومرّات، سوّق الخطاب الصهيوني الرسمي أنّ حزمة الجرائم التي يرتكبها الكيان الصهيوني ضدّ الشعب الفلسطيني: الإبادة، والعقاب الجماعي، وتدمير مقومات الحياة، ضرورة لإنقاذ الحضارة. وفي سياق جدل يتصاعد في الغرب تتراكم الشواهد على أنّ الدولة الصهيونية تستعيد اللحظات الأكثر سوداوية في التاريخ الغربي، مستهدفًة أولًا تبرير خطايا اليوم بخطايا الأمس.

وفي ذاكرة القانون الدولي أنّ الجمعية العامة للأمم المتحدة أصدرت في العاشر من نوفمبر/ تشرين الثاني 1975 القرار رقم 3379 (بتصويت 72 دولة بـ"نعم" مقابل 35 بـ"لا" وامتناع 32)، وهو قرار نصّه أنّ "الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري". وطالب القرار جميع دول العالم بمقاومة الأيديولوجية الصهيونية بوصفها خطرًا على الأمن والسلم العالميَّين. والقرار ألغي بقرار لاحق، شكَّل سابقة في العلاقات الدولية، في 16 ديسمبر/ كانون الأول 1991، وجاء في سطر واحد: "تقرّر الجمعية العامة نبذ الحكم الوارد في قرارها رقم 3379". فكيف انتقلت الصهيونية من موقع "العنصري" إلى موقع "حارس الحضارة"؟!

والصهيونية (المشروع والدولة) كانا لعقود ثقبًا أسودَ في علاقات الشرق والغرب، وتلطّخت أيدي قادتها بدماء عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وعشرات الآلاف من مواطني الدول العربية التي حاربتها، فضلًا عن قائمة من المخازي الأخرى كشفتها للمرّة الأولى بعض كتابات "المُؤرّخين الجدد"، وتشمل القائمة جرائم اغتصاب جماعي بقيت مخفية لعقود. وبينما شهدت عقود قليلة ماضية وقائع مُتفرّقة اعترفت فيها دول غربية بارتكاب جرائم في حقّ شعوب من الجنوب احتلت أراضيها، يقف الغرب الرسمي صامتًا وهو يرى إسرائيل (رسميًا) تحوّل "الحضارة" إلى "ممسحة أحذية" لإحدى أسوأ الحكومات في تاريخ الكيان. وتعكس حالة الدعم الرسمي المطلق لجرائم حكومة السفّاح بنيامين نتنياهو قبولًا، لا مواربة فيه، للفكرة التي ينطوي عليها تبرير الإبادة الجماعية للمدنيين والتدمير المُمنهج لقطاع غزّة، القائلة إنّ "البرابرة" يهدّدون الحضارة من غزّة.

تتراكم الشواهد على أنّ الدولة الصهيونية تستعيد اللحظات الأكثر سوداوية في التاريخ الغربي، مستهدفًة أولًا تبرير خطايا اليوم بخطايا الأمس

واليوم، تتوافق (بالصمت) عواصم عربية مع سردية أنّ الحرب على أهل غّزة المدنيين العزّل ضرورة لاقتلاع تنظيم مسلّح "إخواني"، وهو تنظيمٌ اصطفت لمواجهته إقليميًا دولٌ عربيةٌ اعتبرت "الربيع العربي" أخطر من الترسانة النووية الصهيونية، وأنّ القضاء على الإسلاميين شرط لدخول العرب جميعًا "عالم الحضارة"، وفي المقدّمات التي بُني عليها هذا الاستنتاج كثير مما يمكن (بل يجب) التحفّظ عليه. والتلاعب بـ"معايير تصنيف" الظواهر الفكرية والإنسانية، وبناء قواعد خادعة لـ"الفصل" و"الوصل"، لعبةٌ صهيونيةٌ قديمةٌ، وفي إطارها صيغت قائمة أكاذيب طويلة بدأت بأكذوبة "أرض بلا شعب"، ووصلت إلى أكذوبة "الاعتراف بالدولة الفلسطينية مكافأة للإرهاب". وقبل أسابيع، فضح حكمان قضائيان ألمانيان جانبًا من هذه الخديعة، عندما أكّدا أنّ شعار: "من النهر إلى البحر" لا يعني الدعوة لإبادة اليهود، وخرج رئيس المجلس المركزي ليهود ألمانيا ليؤكّد أنّ الحكم دعوة لإبادة اليهود، ما يُؤكّد، ضمن شواهد أخرى كثيرة، أنّ إسرائيل تتصرّف بوصفها حارسَ "الحضارة"، وأنّها، بدعم أميركي – بريطاني، المصدر الوحيد للحقيقة المطلقة في العلاقات الدولية (!)

ستترك هذه المهزلة المعرفية – الأخلاقية أثرًا سلبيًا في العلاقات الدولية، وفي موقف الشعوب العربية والمسلمة من الغرب كلّه، ستُحدِث أثرًا رهيبًا لم تنضج ثماره بعد. وقد أطلق سياسيون غربيون كثيرون تحذيرات عديدة لإسرائيل من أنّ سلوكها الوحشي سيدشّن حقبةً من الرغبة في الانتقام قد تمتدّ لعقود، لكنّ هؤلاء "الحكماء" لم ينتبهوا إلى الآثار الأكثر فداحة التي ترتّبت على قبول النخب الغربية (ولو بالتغاضي) ما يعنيه ادعاء السفاح بنيامين نتنياهو، شخصيًا، أنّ الدولة الصهيونية تخوض حربًا للدفاع عن "الحضارة" نيابة عن كلّ الدول المتحضّرة، وعندما أعلن مُدعّي المحكمة الجنائية الدولية أنّه طلب إصدار مُذكّرات قانونية للقبض على شريكي الدم والوحل: نتنياهو – غالانت، أكّد وزير خارجية الكيان الصهيوني ثقته في أنّ "الدول المستنيرة" لن تسمح بذلك. واستخدام تعبيرات مثل: "الحضارة" و"الاستنارة" لتبرير الوحشية الصهيونية لن يكون بالإمكان تجاوزه بسهولة، معرفيًا، وأخلاقيًا، وثقافيًا، وسياسيًا، في العالمَين العربي والإسلامي، والمرارة التي طرح بها الأميركيون سؤال: "لماذا يكرهوننا؟"، بعد هجمات 11 سبتمبر (2001) ستكون نقطة في بحر قياسًا بما سينجم عن تنصيب السفّاحين حُرّاسًا للحضارة.