الليبرالية الغربية من الإغواء إلى القمع

02 يوليو 2024
+ الخط -

أصدرت المحكمة العُليا الأميركية، في يوليو/ تموز 2022، حكماً وُصِفَ بـ"التاريخي" أنهى 50 عاماً من "الحقّ القانوني في الإجهاض"، وهو حكم فتح الباب واسعاً أمام النقاش بشأن مستقبل الليبرالية الغربية، وهي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تستلهم النموذج الأميركي. ومع صعود اليمين المحافظ يزداد مستقبل الليبرالية قتامةً، وبخاصّة أنّ صعود المحافظين المتزامن، في جانبي الأطلنطي، يُهدّد الزعم الليبرالي الأساسي بأنّ الاجتماع الإنساني يمكن أن يكون بلا "شجرة محرّمة". ولأنّ الليبرالية لم تزل من سمات الرؤية الغربية، ولم تزل تلخّص الفلسفة الكامنة وراء العديد من الوثائق الدولية، وفي مُقدّمتها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والإعلانات المكمّلة، فإنّ صفحة جديدة من تاريخ الغرب يبدو أنّها توشك أن تُطوى.

دخل قانون الجنسية الألماني الجديد حيّز التطبيق متضمّناً اشتراط التأكّد من قبول المُتجنّس "حقّ إسرائيل في الوجود"

وفي سابقةٍ قانونيةٍ تُعزّز هذا التحوّل، رفضت المحكمة العُليا في الولايات المتّحدة، ذات الأغلبية المحافظة (من ستّة قضاة محافظين وثلاثة تقدّميين)، طلباً بمنع السلطة التنفيذية من التدخّل في عمل شبكات التواصل الاجتماعي لإزالة المحتوى الإشكالي. رُفِعَت الدعوى القضائية من اثنين من المدّعين العامّين ينتميان إلى الحزب الجمهوري، يدّعيان أنّ المسؤولين الحكوميين تمادوا في محاولاتهم جعل منصّات التواصل الاجتماعي تكافح المعلومات المًضلّلة، منتهكين بذلك التعديل الأول من الدستور الأميركي، الذي يرتبط بحرّية التعبير. والقرار يعني رفض تقييد سلطة البيت الأبيض والوكالات الحكومية في التدخّل لدى منصّات التواصل الاجتماعي لطلب حذف منشوراتٍ تراها "مُضلّلة". واتهم مسؤولون جمهوريون إدارة بايدن بـ"ممارسة الرقابة"، ومحاولة إسكات الأصوات المُعارِضة. وكانت محكمة فيدرالية أصدرت حكماً لمصلحة المسؤولين الجمهوريين، في العام الماضي، حين منعت المسؤولين الحكوميين من التواصل مع مواقع التواصل الاجتماعي إلّا في مسائل تتعلّق بتنفيذ القانون أو الأمن القومي.
والمفارقة، هنا، أنّ الحزب الديمقراطي "الليبرالي" انحاز إلى تقليص نطاق مفهوم "حرّية التعبير"، وفي الجانب الآخر من الأطلنطي، وبالتحديد في ألمانيا، دخل قانون الجنسية الألماني الجديد حيّز التطبيق متضمّناً اشتراط التأكّد من قبول المُتجنّس "حقّ إسرائيل في الوجود"، وبعدما دعمت الحكومة الألمانية مشروع قانونٍ يتيح طرد الأجانب بمُجرّد تعليقهم على منشورات داعمة لفلسطين في الإنترنت. والمفارقات تتعدّد وتزداد حدّة، فبينما شهدت الولايات المتّحدة، وعواصم غربية أخرى، موجاتِ قمعٍ "بوليسية"، حرفياً، في مواجهة تظاهرات طلّاب الجامعات المناصرة للشعب الفلسطيني، تتعالى الأصوات في الجنوب متسائلةً عن عشرات السنين من الوصاية الغربية المتبجّحة على حالة الحرّيات في العالم كلّه. وقد كانت الدعاية التبشيرية الغربية لليبرالية تمتلئ بالثقة في أنّ الحالة الفطرية للإنسان أن يكون حرّاً بشكل مطلق من دون قيود من الدين أو التقاليد المجتمعية أو القناعات المُسبَقَة، فإذا بإسرائيل تتحوّل قناعةً مُسبَقَة ينبغي على العالم، أفراداً ومجتمعات، الإقرار بحقّها في الوجود وحرمة انتقاد سلوكها، وهي عقيدةٌ ذات أصل توراتي. ومعارك "الصوابية السياسية" و"تجريم التشكيك في الهولوكوست" و"معاداة السامية"، هي ضمن قائمة لا تزال مفتوحة، تضمّ كثيراً ممّا يمكن وصفه بـ"الشجرة المحرّمة"، وتاريخياً، كان تعبير "ذهنية التحريم" تعبيراً تحقيرياً يستخدمه كثيرون من الليبراليين في الغرب والشرق على السواء لوصم الأديان والثقافات المُحافِظة، التي لم تقبل المنطق الليبرالي أساساً للاجتماع الإنساني، ولم تقبله سمةً أراد الغرب لعقود جعلها ملازمة للديمقراطيات في أنحاء العالم كلّه.

تتعالى الأصوات في الجنوب متسائلةً عن عشرات السنين من الوصاية الغربية المتبجّحة على حالة الحرّيات في العالم كلّه

وانتقال الدول الأكثر ارتباطاً، تاريخياً، بالليبرالية من الإغواء إلى القمع، مُنعطف سيكون له ما بعده، وصعود اليمين في الغرب، سواء كان مدفوعاً بالخوف من الآخر أو القلق على الهُويّة ينقل معارك الجنوب إلى الشمال، فطالما كانت صراعات الهُويّة إحدى مفردات القاموس السياسي في الدول الأقلّ تقدّماً، ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي، مطلع تسعينيّات القرن الماضي، وقضية الهُويّة تُؤرّق العديد من الدول الغربية. وتَرافَق هذا التحوّل مع مزيد من التشريعات المقيّدة لانتقال البشر والأفكار، ومع مزيد من البحث المحموم عن مؤامرات "الاختراق" الرقمية، ومزيد من التحذير من سيناريوهات "الاستبدال الديمغرافي العظيم"، في مشهد تآكلت فيه وعود الازدهار الذي ستحقّقه الليبرالية غربياً وعالمياً. والمزيد من القيود يكشف عن مزيد من التشاؤم والخوف بشأن مستقبل قدرة الليبرالية على الإغواء أو الإقناع، ولجوئها المتصاعد إلى ترسانة أسلحة "القمع": الإقصاء، والتجريم، والمنع، والتقييد.
وتحدث الانتكاسات الأكثر إيلاماً في مسقط رأس الليبرالية (!)