رحم صناعي وأشكال بديلة للمجتمع

19 فبراير 2022

(أسعد عرابي)

+ الخط -

قبل سنوات عديدة، طرحت الصين في الأسواق منتجا غريبا، هو "غشاء بكارة" بديل للغشاء الأصلي. وقيل يومها إن الدول العربية، وبعض دول العالمين الإسلامي والثالث، كانت السوق الذي استهدفته الصين بهذا المنتج، لما لبقاء غشاء البكارة كما هو قيمة كبيرة لدى هذه الشعوب، تتعلق بشرف الفتاة وسمعة عائلتها، فغشاء البكارة يجب أن يزيله حصرا الزوج، وإلا أصبحت سمعة الفتاة وعائلتها عرضةً للتشويه والنبذ الاجتماعي، حتى أن ثمّة تقليدا استمر طويلا، أنه حين يدخل العريس بعروسه يخرج بعد قليل، ويحمل بيده قطعة قماش بيضاء عليها قطراتٍ من الدم دليلا على عفّة العروس التي اختارها، لتبدأ الزغاريد بعدها فرحا بهذا الإثبات. ولأن فكرة اكتشاف الجسد ورغباته تبدأ باكرا جدا، فإن فتياتٍ كثيراتٍ يفقدن هذا الغشاء بشكل أو بآخر. لا بأس، وحش الإنتاج الصيني جاهز لطرح بدائل لا يمكن تمييزها عن الطبيعي. هكذا سوف يصبح "رمز الشرف" سلعة بكل معنى الكلمة، ومعه سوف ينتهي طقس إعلان العفّة على رؤوس الأشهاد، ذلك أنه لم يعد أحدٌ يدرك إن كان الغشاء أصليا أم تم تركيبه على يد خبير ما.

ومثلما كان غشاء البكارة رمزا للعفّة والشرف، كذلك تؤسطر شعوبنا الأم والأمومة، وتضعها في منزلةٍ تكاد تقترب من منزلة الملائكة، فالفكرة الجمعية المجتمعية عن الأم فيها من اليوتوبيا الكثير. يرفق لفظ الأم دائما بـ"الفاضلة"، لا يجوز للأم أن تكون ناشزة، في نشوزها تحطيم للأسطورة ولكل ما يتعلق بها، وتحطيم للبديهيات التي تشكلت في الوعي الجمعي عبر توارث أقوال وحكم وأشعار وآيات كريمة وأحاديث كلها تضع الأم في موضع الطهارة، كلهن قريبات الشبه بالسيدة العذراء، لولا خصوصية السيدة مريم العذراء في التاريخ والأديان. وتأتي طقوسية العلاقة مع الأم من الرحم، عملية الحمل والولادة والإنجاب والإرضاع. كيف تتحوّل النطفة إلى جنين يخرج بعد تسعة أشهر كائنا بشريا كاملا، أمر ليس من السهل التعامل معه لمن سلّم عقله للغيبيات، بعيدا عن الوعي العلمي الذي يدرك أن حدث الحمل والإنجاب شأن لا يتعلق بالإنسان فقط، بل بكل الكائنات الحية، وعملية الولادة لدى بعضها شبيهة بالتي للإنسان، لكن الكائنات الأخرى تتصرّف لاحقا بغريزتها: أدّت ما عليها في دورة الحياة من دون أي تبعات راكمتها عقول البشر وإدراكاتهم، وجعلت من الأدوار الطبيعية في الحياة استثنائية وطقوسية وأسطورية.

بيد أن للعقل البشري ذاته آراء أخرى تتمثل في التقدم العلمي والابتكارات المدهشة، والتي تضع بديهيات تاريخية وثوابت مؤكّدة موضع الشك، فها هي الصين، مرة أخرى، تخترع رحما صناعيا بديلا عن رحم الأم، وتخترع معه إنسانا آليا مهمته الوحيدة الإشراف على عملية تشكل الجنين داخل الرحم والاعتناء به حتى مرحلة ما بعد الولادة، ما يعني أن كل الأسطرة التي تحيط بالأمومة والأم سوف تنتهي، فالعملية الأساسية التي صنعت العلاقة القيمية التطهرية مع الأم استطاع العقل البشري، بقدراته المذهلة، أن يستبدلها بأخرى مشابهة خارجة عن جسد المرأة/ الأم.

وكما سيغير الرحم الصناعي من بديهية الأمومة، فإنه سوف يغير أيضا بديهيات مجتمعية تتعلق بشكل الأسرة والأدوار المتعلقة بأفرادها، فمن يدري؟ أليس من الوارد تركيب الرحم الصناعي في جسد الرجل يوما ما، بعد إجراء تلقيح بين النطفة في البويضة وزرعها في الرحم الصناعي؟ هكذا ربما سيشهد العالم رجالا ببطون منتفخة تحمل داخلها أجنّة بشرية. أيضا سوف يتيح الرحم الصناعي لمن أجروا عمليات تحويل جنس من الذكورة إلى الأنوثة أن ينهوا عملية التحويل بالكامل عبر زرع رحم صناعي. سوف يتيح ذلك أيضا لمثليي الجنس أن ينجبوا أطفالا من أرحامهم بدلا من التبنّي. طبعا ستتمكّن أيضا المتقدمات في السن ممن لم يحالفهن الحظ في الإنجاب فترة الشباب من أن يحققن حلم الأمومة، وخصوصا أن عملية تجميد البويضات للنساء أصبحت شائعة جدا.

كل يوم يقدّم لنا العلم ليس ما يدهشنا فقط، بل أيضا ما يحطّم كل الثوابت والبديهيات التي نشأنا عليها، وتلك التي قامت عليها المنظومات الدينية السماوية والأرضية، وما النقاشات الأزهرية وفتاوى "علماء الدين" واختلافاتهم بشأن دور العلم والدين سوى جزء من الصدمات التي تخلخل ثوابت مجتمعية ودينية، وتخلخل معها يقينياتٍ لطالما كانت متعالية على العلم والعقل البشري.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.