خيّاطون أمام البحر
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
تفرض الشركات العابرة للقارّات طابعها الموحد، وبذلك تخفي الثروات الجمالية والطبيعية للبلد المستضيف. وبالتالي، تُخفي التنوّع واللاتشابه، خصوصاً في المجتمعات الشرقية النامية التي تتميز بالثراء الثقافي، وقد بدأت تغزوها الماركات العالمية المتشابهة، التي -بسبب إمكاناتها المالية اللامحدودة- تستطيع أن تستثمر في أفضل الأماكن وأكثرها إقبالاً من الناس والجمهور العام. لذلك، تتشابه "المولات" الحديثة في كل مكان، فأنت ما إن تدخل إحداها كأنك دخلتها جميعاً، حيث تنزاح وتختفي كل خصوصية محلية للمكان. فمحلّ كارفور في مسقط، مثالاً، يبدو كأنه هو نفسه في كل مكان تصل إليه خريطته، وهذا ما وجدتُه في عدة بلدان. وينسحب الأمر على مختلف الماركات التجارية المعروفة التي تتعالى عن الاستفادة من المكوّنات الطبيعية والتأثيثية للبلد المستضيف مشاريعها، وكان من وراء القصد الهدف التجاري الربحي، والثقافي الاستهلاكي، المتمثل بتمرير الطابع المفروض وتوطينه بنعومة وإغراء.
لذلك، الباحث عن خصوصيات المكان المحلي عليه بالأسواق الشعبية المفتوحة، وتلك المحالّ المبعثرة قرب البحر، كما هو الحال مع ولاية السيب التابعة لمحافظة مسقط، وهي ولاية واجهتُها بحرية، وإن كانت سواعدها السكنية صارت تتمدّد وتمتلئ بالبيوت الجديدة، بعد أن كانت أرضاً بلقعاً خاوية، كما هو الحال مع حيّ "أم عبيله" الكبير، والمتشعب في أطراف ولاية السيب. بينما الواجهة البحرية لهذه الولاية العريقة (ولاية السيب)، لا تزال تحمل النكهة القروية البحرية، خصوصاً في واجهاتها ومحلاتها التجارية، مثل أسواق السمك والتمر والأعلاف، وكذلك عرصات الخضار والفواكه التي يزرعها الأهالي في بيوتهم، ثم يعرضونها بهدوءٍ يشبه الخجل، في الهامش، تحت سقائف السوق المفتوح. هناك كذلك توجد ساحة أسبوعية لبيع وشراء الطيور والحيوانات البيتية من دجاج وحمام وقطط، بل أجد أحياناً من يعرض قنفذا يخفي رأسه في باطن فروته الشوكية، أو سعداناً نزقاً، أو ببغاءً يتقن كلمات متفرّقة ضمنها كلمات من اللغة السواحلية الأفريقية (الزنجبارية) التي يتقنها عدد واسع من العُمانيين، وما زالت بعض البيوت تهتم بأن تتحدث بها.
هناك أيضاً محلات بيع الأدوية الشعبية قرب البحر، ضمنها العطريات التقليدية من لبان وعود، وكافتيريات بيع جوز الهند، وعيادة للحجامة ينشط الإقبال عليها. أغرب ما هو موجود في ساحل السيب، صفٌّ من الخياطين يواجهون البحر. أي رفاهية أن تمضي سحابة يومك الشاقّ أمام مشهد البحر؟ كانت هذه ميزة جميلة لهذه المجموعة المتجاورة من الخياطين. وهؤلاء لا يخيطون سوى الدشاديش العُمانية، وهو اللباس الشعبي والرسمي معاً. وبسبب ذلك، لا يمكنك أن تجد خياطاً بلا عمل، فالثوب الأبيض يجري تحت إبرة الخياط صباح مساء، وهو يراوح نظره بين صورة البحر وما تنشغل به يداه ورجلاه. والأبيض هو ثوب العمل والمدرسة، أما الألوان الأخرى فتُلبس عادة في غير هاتين المناسبتين. لذلك، اللون الأبيض أكثر ما يمكن أن تراه العين في ساعات النهار. يوجد في سوق مطرح كذلك زنقة طويلة في بنايةٍ قديمةٍ تسمّى بناية طالب، مليئة بالخياطين. ولكنها في مكان خلفي شبه مظلم، رغم تميّز خياطاتهم بتنسيقات خاصة، ما جعل الإقبال عليهم لا ينقطع، ومن مناطق مختلفة من عُمان. ولكني لا أظنهم يقومون بعملهم بمثل هذا المزاج البحري الصافي الذي عليه خياطو ساحل السيب. مع وجود تقليعاتٍ تحصل بين فينة وأخرى على الدشداشة العُمانية التي تغيرت كثيراً قياساً بالدشداشة القديمة التي تتميز بوجود خانق عند الرقبة، يتدلى منه ذيل خيطي قصير يسمّى الفريخة. والآن، طال هذا الذيل الخيطي كثيراً، وعند الجيد والصدر ارتسمت خيوطٌ بأشكال مختلفة، بعد أن كانت خيطاً واحداً، والثوب يؤتى به الآن حتى من اليابان مكوياً وبمختلف الألوان، بعد أن كان بلون واحد أو لونين، أحدهما مائل إلى الصفرة، بينما يظلّ سطح الدشداشة على سجيّته المنكمشة.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية