"خلطة" ميلان كونديرا

17 يوليو 2023

ميلان كونديرا في مكتبه في باريس (2/8/1984/Getty)

+ الخط -

مع رحيل الروائي التشيكي، ميلان كونديرا، الأربعاء الماضي، فقد الأدب الإنساني روائياً من عيار خاص. كانت كل رواية له تشكّل أفق انتظار للقارئ، ومنه العربي الذي يتداول معظم رواياته ويحفظ عناوينها، وهذا ما دلّت عليه وسائل التواصل الاجتماعي يوم رحيله، حيث جرى تداول عناوين رواياته مقرونة بخبر وفاته، في دلالة على انتشار هذه الروايات، أو على الأقل عناوينها، القريبة حتى من طبيعة الكاتب الذي اتصفت إصداراته بـ "البطء" (كما عنوان إحدى رواياته)، حيث نرى مسافة طويلة بين كل إصدار وآخر. كما أنها تدين "الجهل"، نظراً لامتلائها بمجموعة كبيرة من المعارف بين تاريخ وسياسة وعلم نفس، فهو حين يكتب، وإن بدأ بلفتاتٍ حميمية، إلا أنه يجعل من الزمن والتاريخ المترامي حلبة ارتداداتٍ واسعة. وهو الذي يعكس عنوان رواية له، حياته، نتيجة انتقاله القسري من تشيكوسلوفاكيا إلى باريس، "الحياة في مكان آخر"، وهو الذي عمّر كثيراً، إلى أن وصل إلى الرابعة والتسعين. وهنا يمكن الإحالة، تجاوزاً، إلى روايته "الخلود". كما أن طبيعة مادته الروائية ونسغها تتأرجح بين الجد والهزل، أو بين "الضحك والنسيان" (أحد عناوين رواياته). والسياسة في رواياته حفلة تافهة، كما في رواية "حفلة التفاهة" التي يكون ستالين أحد شخصياتها. وهكذا ما إن تمضي مع رواياته، إلا وترى شيئاً منها يعكس حياته ومسيرته وفترة شبابه (وليست طفولته التي لا نعرف شيئاً عنها). وهناك روايته الأكثر شهرة "خفّة الكائن التي لا تُحتمل" (ترجمة عفيف دمشقية) التي ترجمت إلى العربية أيضاً بعنوان آخر "كائن لا تُحتمل خفّته" (ترجمة ماري طوق).
ولأن لكل كاتب مؤثر بصمته وطريقة كتابته، أو "خلطته" إن صحّ التعبير، نجد، مثلاً، أن أسلوب بورخيس الذي أثر كثيراً في الأدب العربي، وخصوصاً في القصة القصيرة، يذهب إلى الاستفادة من العجيب والخرافي ومزجهما في قالب بوليسي... تميّز دوستويفكسي الذي كان معلماً لروائيين كثيرين بالغور العميق في ردهات النفس البشرية مع حبكة شائقة آسرة. ونجيب محفوظ، ضمن ما تميز به أسلوبه، استثمار القراءات لكتابة الواقع والذاكرة المصرية بشقّيها، الاجتماعي والسياسي، وهو ما جعل رواياته تتصف بالتجريب واللا تشابه، مكلّلاً ذلك كله بلغة عربية متعدّدة، متنوعة، جميلة، تراثية أحياناً، تدلل على طول كعبه اللغوي.
السياسة نواة معظم أعمال كونديرا، بالاتّكاء إلى سيرة القمع، ولكن ليس على طريقة غابرييل غارسيا ماركيز الذي استفاد، في بعض رواياته، من الواقع السياسي اللاتيني القمعي، من أجل إيجاد مادة سحرية واقعية، ولكن مع التركيز على سير الحكّام وتكثيفها، كما في روايتي "خريف البطريرك" و"ليس لدى الكولونيل من يكاتبه" وغيرهما. ذهب كونديرا في اتجاه آخر من هذه الناحية، حيث انطلق من الهوامش واللحظات العابرة ودقائق أمور لا يلفت إليها لينطلق منها نحو الأوسع، أي نحو المحرّكات الخفية للأزمات، والتي تصبّ، في معظمها، في آلات القمع السياسي التي تقود الفرد إلى مصائر لا يجد لها تفسيراً. يقدّم ذلك كله بمزيج يتراوح بين الفلسفة والأدب، مع انفتاح على تاريخ بعض الأفراد. في "الخلود" مثلاً، ينطلق السارد من تلويحة يد امرأة، بالقرب من حوض السباحة، في كل مرّة يعود إلى تلويحة المرأة التي شكّلت لازمة أو وصلة لتصعيد الحدث، وتحويله من مرحلة إلى أخرى.
ميزة أخرى مهمة تطبع روايات كونديرا، المتعة. من يقرأه ويغوص في عوالم نسيجه الروائي يتورّط بالعوم في المتاهات الحلوة للرواية، حتى النهاية، وذلك لأنه سيكون، في كل منعطف، أمام لحظة جديدة من المعلومات السياسية والتاريخية والفكرية والفلسفية والنفسية، مقدّمة في طابع متصاعد شائق. أكثر ما يميز كونديرا أيضاً مقدرته الفريدة على مزج الأزمنة، فحين ينطلق بك من جزئية حميمة في لحظة راهنة يعصف بك بسهولة في ردهاتٍ بعيدة. ما يدلل على أنه قبل أن يكتب روايته يفكر وهو يجمع حطبها. في "البطء"، مثلاً وأنت تقرأ تقف فجأة أمام حديث عن الأطفال الذين قرّروا أن يجمعوا أموالاً من أجل إرسالها إلى الصومال التي كانت وقت كتابة الرواية تعيش ظروف المجاعة. لذلك، مما يجعل روايات كونديرا مقروءة أنها تستمد عناصرها من الواقع المعاش، ولكن بطريقة لا تُملّ.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي