خلطة أزمات
فيما يبذل الأوروبيون محاولة "جديدة أخيرة" لإنقاذ الاتفاق النووي مع إيران، تتّجه الولايات المتحدة إلى رفع مستوى تسليح أوكرانيا لبلوغ هدفها المعلن المتمثل بإضعاف روسيا وإلحاق هزيمةٍ بها، وفيما تزداد حدّة التنافس وتتسع مساحته بين واشنطن وبكين لتشمل المنطقة الممتدة بين جزر سليمان جنوب المحيط الهادئ وصولًا إلى غرب أفريقيا، يقف العالم، في الأثناء، على مشارف أزمة جديدة كبرى، عنوانها الغذاء والطاقة، وهو لمّا يتعافى بعد من تداعيات جائحة كورونا. وعلى الرغم من تنوع هذه الأزمات، تباعدها، واختلاف موضوعاتها، إلا أنها تتداخل إلى درجةٍ بات من المتعذّر فصلها. ولا يبدو أن هناك مكانا آخر في العالم تتشابك فيه خيوط هذه الملفات، وتظهر تداعياتها جلية، كما في منطقة الخليج وعموم غرب آسيا. هنا، يظهر الترابط بشدّة بين هذه الأزمات من خلال مسارات متعدّدة، منها، كما أشرنا، محاولات إحياء الاتفاق النووي مع إيران، ليس فقط لتفادي مواجهة عسكرية محتملة معها في حال فشل المفاوضات، بل، وهو الأهم الآن، لمعالجة أزمة الطاقة التي باتت تقضّ مضجع الأوروبيين، مهدّدة أمنهم واقتصاداتهم، بعد أن صارت في قلب الصراع الدائر مع روسيا حول أوكرانيا. ويعتقد الأوروبيون، والأميركيون أيضا، (إدارة بايدن)، أن الاتفاق النووي، فوق أنه يعيد القيود على برنامج إيران النووي، فإن عودة النفط الإيراني إلى الأسواق تساعد في إضعاف روسيا عبر تقليص صادراتها النفطية، وصولا إلى إخراجها كليا، إذا أمكن، من سوق الطاقة العالمي، من دون تداعيات كبيرة على الإمدادات والأسعار.
لكن حقيقة أن إيران باتت، بغضّ طرفٍ أميركي، تصدّر كميات من النفط تصل، بحسب تصريحاتٍ إيرانية، إلى المستوى الذي كان قائما قبل إعادة فرض العقوبات عليها بعد انسحاب الرئيس ترامب من الاتفاق النووي في مايو/ أيار 2018، يعني أنها ما عادت مهتمةً بالعودة إلى الاتفاق النووي بالإلحاح الذي كان سابقا، ومن دون أن يتحقق أيضا التأثير المطلوب على الأسعار التي ظلت تراوح فوق مائة دولار للبرميل، رغم انخفاض الطلب الصيني بسبب عودة تفشّي وباء كورونا. هنا يدخل على الخط النفط الخليجي، حيث تمارس الولايات المتحدة ضغوطا متزايدة على السعودية والإمارات والكويت، التي تملك مجتمعة طاقة إنتاج احتياطية تبلغ نحو ثلاثة ملايين برميل يوميا (ما يعادل ضعف صادرات النفط الإيرانية حاليا)، للتخلّي عن تفاهماتها مع روسيا في إطار "أوبك +" وضخّ النفط بالطاقة القصوى. لكن السعودية والإمارات، تحديدا، ترفضان التجاوب، وتسعيان، كما يبدو، إلى استغلال الأزمات الأربع المذكورة (ملف إيران النووي، الغزو الروسي لأوكرانيا، أزمة الغذاء والطاقة العالمية، وازدياد حدّة التنافس بين القوى العظمى)، لتحقيق غاياتٍ متصلةٍ بعلاقاتهما الثنائية مع واشنطن. وعلى الرغم من تعاطفهما البادي مع الموقف الروسي، والتطوّر المضطرّد في علاقاتهما بالصين، إلا أن كل المؤشرات تقول إن السعودية والإمارات تهدفان إلى الالتصاق أكثر بواشنطن، وليس الابتعاد عنها. من هنا، عودة الحديث أخيرا عن طلب البلدين إبرام معاهدة دفاعية مع واشنطن، في مقابل دعم جهود إحياء اتفاق إيران النووي والمساعدة في حل أزمة الطاقة العالمية، ودعم سياسات احتواء الصين وروسيا. لكن الوصول بالعلاقات مع واشنطن إلى هذا المستوى تحول دونه عوائق مهمة، منها ما هو مرتبط بالداخل الأميركي، حيث ترتفع دعوات إلى مراجعة العلاقات مع السعودية والإمارات، وتجري محاولاتٌ في الإعلام ودوائر الكونغرس الأميركي لتحميلهما مسؤولية ارتفاع أسعار النفط، فضلا عن الامتعاض من دخول البلدين في لعبة الانقسام الداخلي الأميركي (العلاقة مع ترامب وعائلته).
أما دوليا، فلن تستسلم روسيا على الأرجح بسهولة لمحاولات إضعافها. وبجانب سعيها إلى مفاقمة الأزمات العالمية في وجه واشنطن، حيث باتت تتعمّد تعميق أزمة الغذاء العالمية من خلال حظرها تصدير الأسمدة، ومنع تصدير الحبوب من أوكرانيا، قد تحاول روسيا استخدام الخاصرة الرخوة للسعودية والإمارات (اليمن) لإحباط أي تفاهم مع واشنطن يستهدف محاصرتها، كما فعلت عندما حاولت إحباط مفاوضات إحياء الاتفاق النووي مع إيران، عبر طلب استثناء تجارتها مع هذه الأخيرة من العقوبات الغربية. ترابط الملفات وتشابكها بهذا الشكل يضفي مزيدا من التعقيد على أزمات المنطقة المعقدة أصلا، ويدفعها أكثر بعيدا عن الحل، خصوصا بعدما باتت رهينة عملية تصفية حساباتٍ بين المتنافسين الكبار على الساحة الدولية.