خبر من البرازيل
طيّرت وكالة الأنباء الفرنسية قبل أيام خبراً على كمٍّ من الإثارة، موجزُه أن الأكاديمية البرازيلية للآداب ضمّت، أخيرا، شاعرا وناشطا من سكّان البلاد الأصليين، اسمُه إيلتون كريناك، إلى أعضائها، ليشغل مقعداً شغر بوفاة مؤرّخٍ في وقت سابق، وليكون الأول من هؤلاء في هذه المؤسّسة الأدبية واللغوية الأهم في البلاد، وتضم 40 عضواً (تأسّست في 1897). وفي مراسم تنصيبِه، استرجع هذا الأديب مسيرة السكّان الأصليين للبلاد في خمسة قرونٍ منذ وصول المستعمرين الأوروبيين، واعتبر اعتذاراً كانت الحكومة البرازيلية قد أعلنته غير كافٍ، وقال: "طلب المغفرة لا يعني الكثير لناحية التعويض. التعويض الحقيقي يكون من خلال الأفعال".
أما فائض الإثارة في الخبر الذي من هناك، من البرازيل النائية عن بلادنا العربية كثيراً، فهو في أنه غيرُ عاديٍّ، غير مألوفٍ ولا معهودٍ، أن يُحرز مثقفون وكتّابٌ من أهل بلدٍ أصلانيون حضوراً لهم في مؤسّسات رفيعةٍ معنيةٍ بالثقافةِ واللغة، فيُصبح انتخابُ واحدٍ من هؤلاء لعضوية الأكاديمية البرازيلية المتحدّث عنها خبراً يستحقّ أن تشيعه وكالة أنباء عالمية، فتُخبرنا هذه ، مثلا، أن إيلتون كريناك وعد، في كلمته في أثناء مراسم تنصيبه، بالإضاءة على لغات السكّان الأصليين في البرازيل، وعددُها نحو مائتين.
ما الذي فعله المستوطنون الأوائل، المستعمرون في تسميةٍ أخرى، في أميركا، في البلاد التي هبطت سفينة الإيطالي كولومبوس فيها أول مرّة في 1493؟ سؤالٌ يضجُّ بزوبعةٍ من تفاصيل مهولة، أول الألف باء فيها أن هؤلاء أبادوا نحو 70 مليوناً من سكّان هذه البلاد الذين سمّوهم هنوداً، وهنودا حُمراً، في عقود استمرّت طويلا، ما يجعلنا، ونحن نصادف الخبر البرازيلي، نذهبُ إلى غير كتابٍ وكتابٍ عن تلك المذبحة الكبرى في تاريخ البشرية، ومنها كتبٌ للباحث المميّز، منير العكش، وقد سمّى أحدها "أميركا والإبادات الثقافية... لعنة كنعان الإنجليزية" (رياض الريّس للكتب والنشر، بيروت، 2009)، وتاليا "أميركا والإبادات الجماعية... حقّ التضحية بالآخر" (رياض الريّس للكتب والنشر، بيروت، 2002". تقرأ فيهما (وفي كتابٍ ثالث) ما قد لا يجعلك تنام جيدا، من هول الفظاعات الفادحة الشناعة، من قبيل شهادة جنديٍّ إن الأجساد قطّعت تقطيعاً رهيباً، والجماجم التي هشّمت تهشيماً فظيعاً كثيرةٌ جدّا، ويقول إنه لم ير ضحيةً واحدةً غير مسلوخة، ورأى أجساداً كثيرة، قُطّعت أعضاؤها التناسلية، رجالا ونساء، ورأى "المايجر سايجر من الفوج الثالث يسلخ هنديا بسلّاخةٍ مزيّنةٍ بالفضة. انتصب فوق الجثة، وهو يراقب الجنود وهم يقطعون الأصابع من الجسَد، رأيت عدداً من الجنود يقطعون الأصابع ليأخذوا الخواتم منها". كثير من هذا حدَث في أكثر من 18 مليون "هندي أحمر" في المنطقة التي تُعرف اليوم بالولايات المتحدة، بتعبير منير العكش.
وهناك في البرازيل التي جاء منها الخبر المتعلّق بإيلتون كريناك، وفينا رغبة بأن نقرأ له وعنه، السكّان الأصليون قبائل تنحدر من هنودٍ أصليين قدموا من جزر بالاو. والمحكيّات عنهم أن ملايين منهم يسكنون في الغابات. وقد جاء هذا الشاعر المتوّج في كلمته في الحفل على "ناقوسٍ خطرٍ" في الشأن البيئي. وذلك الفيلم "زهرة بوريتي" الذي أنجزه مخرجان مجتهدان، وشوهد في العام الماضي، تتبّع عيش قبائل منهم في غابات البرازيل، وجاء على اضطهاد البيض هناك الأقليات العرقية. ولم تصل إلى لغاتنا قصصٌ وأشعارٌ من هذه الشعوب، إلا نتفٌ شحيحةٌ تُرجمت، مع أخرى من غير بلد في أميركا اللاتينية، فالمؤكّد أن إبادةً ثقافيةً مشهودة استهدفت هؤلاء الناس الباقين، الذين تُظهر أفلامٌ وثائقية، ذات سمْت سياحي، رقصات من فنونهم وفلكلورياتهم. نتفرّج عليها، وقليلا ما يأتي إلى مداركنا وأخيلتنا أن دماء وفيرة سالت من أجداد هؤلاء، في جرائم قتلٍ وإبادةٍ بفظائع مريعة، استهلّها كولومبوس ... وهذا شاعرٌ من واحدةٍ من سلالتهم يبدو، في الخبر الذي وفد من هناك، من البرازيل، كأنّه الضحيّة التي كتب مرّة محمود درويش إن من حقّها أن تدافع عن حقّها في الصراخ.