حين كان غورباتشوف عدوّي

03 سبتمبر 2022
+ الخط -

يقع بيت أهلي في الملاجة (قريتي في سورية) أسفل تلةٍ يعلوها بيت عمي. أتذكّر أن مطرا كان يهطل ذلك اليوم، وأنا مستلقيةٌ مع طفلتي على السرير تحت نافذةٍ تطلّ على حديقةٍ، غالبا ما يكون عمّي في هذا الوقت يعمل بها، وبرفقته جهاز راديو يبثّ بصوت عال نشرات الأخبار وبعض الأغاني العربية. كان موعد نشرة الظهيرة في هيئة الإذاعة البريطانية القسم العربي، حين ابتدأ المذيع النشرة بالخبر التالي: "الرئيس ميخائيل غورباتشوف يعلن بداية مرحلة جديدة في التاريخ البشري، انتهى الاتحاد السوفييتي إلى الأبد". أتذكر أنني يومها أدخلت طفلتي بكاملها تحت اللحاف، وأغلقت أذني، كي لا أسمع بقية الخبر.

الخامس والعشرون من ديسمبر/ كانون الأول عام 1991 يوم لا يمكن لأحد من أبناء جيلي أن ينساه، فهو أكبر مواجهةٍ لكثيرين من أبناء هذا الجيل مع مفهوم الهزيمة، هزيمة الأحلام التي كبرنا عليها وهزيمة العدالة الاجتماعية التي كنّا نظن أنها محققة في العالم الاشتراكي، وهزيمة المبادئ والأفكار التي اعتقدنا أنها بديهية، وأنها ستبقى إلى الأبد من اليقينيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في سلوكنا.

لم أكن يوما في الحزب الشيوعي، أقصد أنني لم أنتمِ رسميا لأي حزبٍ أو رابطةٍ أو مكتب. لم يكن الأمر قرارا، كي لا أدّعي حذاقة وحنكة لم تكن موجودة عندي، كان الموضوع متعلقا بالمصادفة الزمنية فقط لا أكثر. لكن هذا لم يمنعني من أكون يساريةً في تفكيري وسلوكي العفوي والواعي، ولم يمنعني من أكون منحازةً إلى المعسكر الشرقي ضد الرأسمالية والإمبريالية، ومنحازةً حتما لحركات المقاومة التحرّرية العربية والعالمية، ومنحازة للمدرسة الروسية والسوفييتية في الأدب والفن والسينما. وهذا جعلني، على حداثة سني حين بدأت البيريسترويكا، أعتبر غورباتشوف أحد أهم المتآمرين مع الغرب، للقضاء على المعسكر الشرقي (لا أحد يعرف الحقيقة).

لم أكن مع البيريسترويكا حينها، رغم أن هدم جدار برلين قبلها كان بمثابة دليلٍ مؤكّد على ما يحدُث في دول المعسكر الاشتراكي. كان الهدم بتدبير من الغرب الإمبريالي، كما كنت وغيري كثر نرى، والأخبار عن الفساد وعن القمع وعن عدم احترام حقوق الإنسان، وعن رغبة دول الاتحاد بالانشقاق والاستقلال، هذا كله كان في بند "دعايات غربية إمبريالية لتشويه الخصم في الحرب الباردة". لم أكن موافقةً على إعادة هيكلة النظام في الاتحاد السوفييتي (كنت أمتلك من الثقة بنفسي إلى حد إيماني أن رغبتي، أو موقفي، بالغة التأثير). لهذا كرهت غورباتشوف، كما لو كان عدوّي الشخصي، وتمنّيت لحظة سماعه، وهو يعلن سقوط الاتحاد السوفييتي، أن تنشق الأرض وتبتلعه أو تبتلعني، ففي تلك اللحظة، أسقط معه كامل يقيني بحتمية انتصار الاشتراكية وانتشارها وعدالتها (يبدو أن تلك الحتمية بانتصار القضايا المحقة تختبئ في أعماقنا، إذ ما زلت أعتقد بحتمية انتصار القضية الفلسطينية وثورات الربيع العربي رغم كل ما حدث).

لن يطول الوقت كثيرا بعد ذلك، حين بدأت أتابع الشأن السياسي باهتمام ووعي أعمق وبحيادية لازمة، وأراجع ما كنت أظنّها يقينيات وبديهيات تشكّلت لدي بفعل الانتماء إلى مرحلة كان الانحياز فيها بين أيديولوجيتين أمرا لا مفرّ منه. لم يكن فقط أن الغرب كان أقوى في الحرب الباردة بين المعسكرين، لكن أيضا كان شرط الاستمرار والديمومة مفقودا في دول المعسكر الشرقي: الحرية والتفرّد واحترام الإنسان لكونه إنسانا واحترام حقه في الاختلاف، وهو كله من الممنوعات في الأنظمة الشمولية التي كان الاتحاد السوفييتي المثل الأول لها.

لم يصبح العالم أفضل حتما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وعانت دوله السابقة من حروبٍ وانقساماتٍ وتفتّت، وزاد التوحش الرأسمالي الغربي في العالم الحديث، وظهرت معسكراتٌ أخرى جديدةٌ تستمد من الشيوعية شموليتها وقمعها، ومن الرأسمالية توحّشها وجشعها. ازدادت الشعوب الفقيرة فقرا، وعصفت الأزمات الاقتصادية المتلاحقة في العالم، ولم تنج منها شعوب العالم الغربي، ولم يتوقّف برنامج التسليح النووي عند حد، بل انضمّت إليه دول أخرى، وتحوّل العالم إلى حكم الشركات الرأسمالية المتنافسة على حساب حياة الشعوب. انتهت سريعا فترة القطب الواحد في العالم، حين بدأت تتسرّب عينات الإرهاب التي صنعت في المختبرات الغربية في أثناء الحرب الباردة، وعاد العالم إلى معسكرين: "معنا أو ضدنا".

مات غورباتشوف (قرأت الخبر على مواقع التواصل)، وكنت أظنه مات منذ زمن، لكنه يبدو أنه عاش طويلا ليشهد أثر يده في خراب العالم الحديث.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.