"الفلاشة" الإسرائيلية

26 يوليو 2024

(ماجد زليلة)

+ الخط -

قبل أيام في باريس، وفي إحدى التظاهرات الداعمة غزّة، طالب رئيس حزب فرنسا الأبيّة اليساري الراديكالي جان لوك ميلانشون برفض استقبال البعثة الإسرائيلية إلى الأولمبياد بعد أيّام في فرنسا بعثةً رسميةً، والاكتفاء باستقبال الرياضيين الإسرائيليين بوصفهم أفراداً، تيمّناً بما قرّرته فرنسا بشأن استقبال الرياضيين الروس ورفضها استقبال بعثة رياضية روسية ضمن عقوباتٍ اتخذها الغرب ضدّ روسيا بعد الحرب على أوكرانيا. وبرأي ميلانشون، فإنّ هذا ما يجب أن يحدُث مع إسرائيل، التي تشنّ حرباً مجنونةً ضدّ غزّة، بدلاً من ازدواجية المعايير التي تتّبعها الحكومة الفرنسية الحالية في التعامل مع الحدث الدولي.
لم يمر طبعاً هذا التصريح من ميلانشون مرور الكرام، قامت الدنيا ولم تقعد عليه في فرنسا، مُتعرّضاً لحملة انتقادات واسعة ومُرعِبة باعتباره يُقلّل من أهمّية معاداة السامية، ويُشجّع على الكراهية ضدّ اليهود، وباعتبار تصريحاته تدعم "الإرهاب" المُتمثّل في حركة المقاومة الإسلامية (حماس). هذه الحملة قادتها بالطبع الجماعات اليهودية الناشطة في فرنسا، مع عدد كبير من السياسيين من الأحزاب المنافسة، ومع بعض الأعضاء في تحالف اليسار، وفي حزبه من المعارضين له. وطبعاً، كان الإعلام الفرنسي في واجهة هذه الحملات التي نتج عنها أمس إعلان ميلانشون تخلّيه عن قيادة الحكومة المُقبلة مبرّراً ذلك بالخلافات داخل تحالف اليسار الفائز في الانتخابات. لكن، ما كان ميلانشون ليتخلّى بسهولة عن حقّه في قيادة الحكومة لولا أنّ تصريحه ذاك عرّض هذا الحقّ لحملة ضغوطات مكثّفة لا ينفع معها سوى الابتعاد أو الفشل الذريع.
يتساءل المرء عن أسباب هذا الانحياز الدولي كلّه لإسرائيل، رغم كلّ جرائمها المُرتكَبة في حقّ الفلسطينيين والعرب، الانحياز الذي قد يصل إلى حدّ ابتعاد مُرشّح بحجم ميلانشون في دولة مثل فرنسا عن قيادة الحكومة بسبب تصريح يطالب فيه بالمساواة في الرؤية فقط؛ ما الذي تملكه إسرائيل ضدّ المجتمع الدولي الغربي يجعلها قادرة على التحكّم بإعلامه وبسياساته وبقرارته إلى هذا الحد؟... قد يفهم أنّ الألمان يشعرون بأزمة ضمير تجاه اليهود نتيجة الهولوكوست تجعلهم منحازين هكذا، رغم الغباء الإنساني والسياسي لهذا الانحياز. لكن، ماذا بشأن الآخرين ممّن كانوا ضحايا كاليهود في مشروع هتلر والنازية، كيف يقبل هؤلاء هذا التعالي الإجرامي الذي تمارسه دولة إسرائيل ضدّ شعب يدفع مدنيوه الثمن، حتّى لو حُمّل السابع من أكتوبر (2023) المسؤولية عمّا تلاه (رغم أنّ 7 أكتوبر نتيجة وليس سبباً)، لكن من يدفع الثمن هنا هم الأبرياء المدنيون وليس حركة حماس كما تدّعي إسرائيل. ومع ذلك، رغم كلّ الدمار والموت الذي تراه البشرية كلّها على الهواء مباشرة، ما زال سياسيو وإعلاميو العالم الغربي يدافعون عن حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، ويعاقبون كلّ من يعترض على ذلك.
بعد اندلاع الثورة السورية ضدّ النظام في 2011، بدأ الإعلام الرسمي السوري باستقبال المُحلّلين السياسيين، السوريين واللبنانيين المُؤيّدين للنظام، ليشرحوا للشعب السوري والعربي المؤامرة الكونية على سورية، ودرجت وقتها حمل بعضهم لـ"الفلاشة" (الذاكرة الوميضة)، التي تضمّ، كما كانوا يقولون، تفاصيل المؤامرة وتفاصيل انخراط المُثقّفين والفنّانين السوريين المُؤيّدين للثورة فيها، كنّا جميعاً، حسب ما قالوه، في تلك الفلاشات، عدا عن "فضائحنا الجنسية"، التي كانت مُوثّقة ضمن تلك الأجهزة الصغيرة، التي يحملها جهابذة التحليل في أيديهم. لم يُعرَض محتوى تلك الفلاشات أمام الجماهير السورية والعربية، ولم يعرف أحد محتواها، ولم يكن فيها شيء أصلاً، وهي بقيت مادّةً للتندّر والسخرية بين السوريين حتّى الآن.
أحياناً، عندما أفكّر بعلاقة السياسة والإعلام الغربي بإسرائيل، وهذا الانحياز الغريب لها، يخطر لي أنّ إسرائيل تملك "فلاشات" ضدّ المجتمع الدولي الغربي تشهرها في وجهه، وتهدّده بالفضيحة كلّما شعرت أنّه يميل قليلاً نحو فلسطين. طبعاً هذا أيضاً للتندّر، لكنّه أيضاً عجر عن فهم الموقف السياسي والأخلاقي الغربي تجاه الحرب على غزّة مع أنّ الجريمة الإسرائيلية لا تُخفي نفسها ولا تتوارى أبداً، ولا أرى أنّ نظرية سيطرة رأس المال اليهودي على اقتصاد العالم دقيقة، فليس كلّ اليهود صهاينة، كما أنّه حدث توزّع في الوقت الراهن لرأس المال، ولم يعد حكراً على اليهود. ما هو السبب إذاً؟

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.