حياة طبيعية للقاتل

30 ابريل 2022

(مروان قصّاب باشي)

+ الخط -

القاتل رومانسي. هذا ما تكشف عنه صفحته على "فيسبوك"، الصفحة التي أغلقت بعد ساعاتٍ من ظهور تقرير صحيفة الغارديان، وانتشاره في "السوشيال ميديا". ربما في تلك الساعات الممتدة بين ظهور التقرير وإغلاق الصفحة، لم يكن القاتل يستخدم "فيسبوك"، ليس لأنه مشغولٌ بعمليةٍ وطنيةٍ أخرى، فهو كما اعترف لآنا (الشخصية الافتراضية) كان متضايقاً من أنّ عمله قد تحوّل إلى عمل مكتبي مملّ، بدلاً من الميداني المليء بالإثارة. ربما كان ما حدث أنّ الكهرباء كانت مقطوعةً لديه في المكتب، وليس بإمكانه تصفّح الشبكة لتمضية الوقت، ذلك أنّ امتيازاً كالكهرباء الدائمة في سورية ليس من حق جميع القتلة. عند الامتيازات، سيتحوّل هؤلاء إلى مواطنين مهمّشين، مثلهم مثل ضحاياهم، أو على الأقل إلى مهمّشين فخورين بمساهمتهم في الانتصار على أعداء الوطن وإرهابييه.

نشر القاتل سابقاً على صفحته (في المتاح رؤيته لغير الأصدقاء) أغاني رومانسية وقصائد لنزار قباني، وعرض صوراً جميلة لقريته، ونشر صوراً برفقة أصدقاء له، يمجّد فيها الصداقة، وصوراً لشقيقه (الشهيد)، متحدّثاً عن مفهوم الأخوة وعن قيمة التضحية والشهادة، وصوراً لطفله، متفاخراً به كأي أبٍ آخر. ولا نعرف إن كان الطفل سيكبر بوصفه "ابن المؤسسة"، كما هو، وكما كبر والده مقتفياً أثر أبيه. والقاتل مؤمن أيضاً، إذ وضع على صفحته آيات من الذكر الحكيم، إذ "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه...".

يعيش القاتل مثل جميع البشر، ويتصرّف مثل بقية البشر. لا يبدو أنّ ما فعله قد سبّب له أرقاً ما، أو حتى وخزاً خفيّاً في الضمير، فحتى اعترافه لآنا الافتراضية بجريمته جاء نتيجة إحساسه بالفراغ والتهميش، إذ غالباً، كان يعتقد أنّ جريمته تلك ستؤهله لأن يكافأ بالعمل في مكانٍ أفضل، قريباً ربما من "السيد الرئيس"، حيث يتمكّن من خدمته وجهاً لوجه، بدلاً من الاكتفاء بتوثيق ما فعله لأجله وأجل عائلته.

تصلح حكاية أمجد يوسف بكل ما فيها، حسب تقرير "الغارديان" والترجمات عنه، لأن تكون دليلاً على البؤس السوري وخرافة الشعب العظيم، منذ ابتليت سورية بحكم آل الأسد؛ إذ ينتمي أمجد إلى أسرةٍ ريفيةٍ فقيرة كبيرة العدد. ارتبط والده بالمؤسسة الأمنية وربط أسرته كلها بها، لكونها السبيل الوحيد للعائلة لتدخل في الطبقة المتوسطة، العائلة التي تنتمي إلى طائفة "السيد الرئيس"، مثل كثيرين من أشباهها، اختلط لديها مفهوم الوطن بالطائفة؛ تلك أول الكوارث التي قصمت ظهر سورية منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي: القضاء على الهوية الوطنية المواطنية الواحدة لمصلحة هوياتٍ صغيرةٍ متفرّقةٍ وقاتلة: عائلة، عشيرة، مذهب، طائفة، طبقة، مصلحة، إلخ. ومع أول زلزال أمني حدث في عام 2011، ظهرت تلك الهويات بكل طاقة الرعب التي راكمتها عبر سنوات، وحصل ما حصل.

نعرف، نحن السوريين، أسراً كثيرة مشابهة لأسرة أمجد يوسف، ونعرف آباء مثل أبيه تحوّلوا، بعد انتهاء خدمتهم العسكرية والأمنية، إلى رجال دين لطوائفهم أو زهاداً أو متصوّفة، من دون أن يعرف أحد، حتى أقرب الناس لهم، حجم ما ارتكبوه من "إثم" وجرائم، ويعيشون حياتهم كما لو أنهم لم يفعلوا شيئاً، إذ هذا أيضاً شأنٌ باطني، لم يكن يسمح بالحديث عنه، وطالما نجوا من المحاسبة، فإن ما فعلوه شأن يتعلق بوظائفهم ومهنهم، في "المؤسسة" كما أسماها أمجد بدقة؛ لكن حتى اللحظة لم يتمكّن أحد من معرفة لماذا وثّق المجرمون جرائمهم ومجازرهم بعد الثورة؟ هل هناك سببٌ نفسي لذلك، أم أنّ الأمر يتعلّق فقط بتوافر إمكانات التوثيق عبر الهواتف المحمولة، وهو ما لم يكن متاحاً سابقاً، مع إدراكهم أنهم محميون من العقاب والمحاسبة، واعتقادهم أنّ أفعالهم كلها في خدمة الوطن، فلمَ لا يتباهون بها إذاً؟

من سوء حظ أمجد أنه وثِق، في لحظة شعوره بالتهميش والخذلان، بشخصية ظنّ أنّها حقيقية، وأنّها تؤمن بما يؤمن به، ففضحت جرائمه. أقول من سوء حظه، لأنّ هناك مئات مثله من مرتكبي الجرائم والمجازر، ما زالوا يعيشون حياتهم كما لو أنهم لم يفعلوا شيئاً، يستمعون إلى الموسيقى ويقرأون شعراً ويصوّرون مناظر خلابة، ويغازلون زوجاتهم وحبيباتهم برومانسية، ويقبّلون أطفالهم قبل النوم، لكنهم سيُصبحون منذ الآن أكثر حذراً في الإفصاح عمّا ارتكبوه، وقد يعدمون أي دليلٍ مادّيٍّ أو معنوي، قد يشكّل خطراً عليهم ذات يوم.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.