حماس والتحدّيات الفلسطينية الداخلية
ارتفعت شعبية حركة حماس ارتفاعاً صارخاً في أعقاب عملية طوفان الأقصى، كما قد ترتفع شعبيّتها أكثر وفقاً لنتائج العملية، أو قد تنخفض إن لم تنجح الحركة في إدارة المسار السياسي الذي أعقب العملية، المتزامن واللاحق لعدوان الاحتلال الصهيوني الهمجي والإجرامي على قطاع غزّة وعلى كلّ فلسطين. هنا لا بدّ من الإشارة إلى أن نتائج المسار السياسي الحالي والمستقبلي لا تتعلّق بمكانة حماس ومستقبلها فقط، بل من المرجّح أن يحدّد مستقبل قضية فلسطين ومصيرها إلى حدٍّ كبيرٍ، بناء عليه، فهو مسألةٌ فلسطينيةٌ جامعةٌ للكلّ الفلسطيني من دون أيّ استثناءٍ.
لذا، نجاح حماس في إدارة المسار السياسي، وقطف ثماره لاحقاً، هو حاجةٌ لكلّ فلسطيني وللقضية الفلسطينية، خصوصاً بعد التراجعات، بل ربّما الإخفاقات، العديدة في السنوات الأخيرة. لكن يتطلّب النجاح في إدارة المسار السياسي الاهتمام بمسائل متعددةٍ، وإدارة كلٍّ منها بأفضل طريقةٍ ممكنةٍ، تطرّق الكاتب إلى بعضها في الآونة الأخيرة، مقترحاً على الحركة المسارعة لتشكيل غرفةٍ سياسيةٍ فلسطينيةٍ مشتركةٍ تضمّ كل المجموعات والفصائل والحركات السياسية باستثناء الانهزاميين والمستسلمين، إلى جانب المنظّمات والهيئات الأهلية والمدنية، والمجموعات التخصّصية، والمختصّين والمهتمين والمتابعين للشأن الفلسطيني من أكاديميين ومثقّفين وباحثين، في محاكاةٍ لتجربة فصائل المقاومة في قطاع غزّة، غرفة العمليات المشتركة، لكن بصلاحياتٍ أوسع، وشفافيةٍ أكبر، ومشاركةٍ أوضح.
قد تتصاعد الضغوط الشعبية داخل قطاع غزّة مطالبةً حماس بإنجاز أيّ اتّفاقٍ يفضي إلى هدنةٍ إنسانيةٍ، ولو كانت مؤقتةً
لكن الاقتراح السابق قد لا يكفي وحده لمجابهة التحدّيات الداخلية الفلسطينية المحتمل تصاعدها، هنا لا بدّ من التأكيد على أحقية الفلسطينيين داخل قطاع غزّة في التعبير عن مشاعرهم ومطالبهم من دون أي تحفّظٍ، مهما كانت تلك الآراء والأفكار والمطالب والمشاعر، فما يتعرّضون له منذ 7 أكتوبر يفوق الخيال، بل إنّ صمودهم وصبرهم وتحمّلهم لكلّ هذا الإجرام الصهيوني والأميركي والغربي؛ الأخيريْن مساهمين مباشرين في الجريمة من خلال دعمها ماليّاً وتقنيّاً وعسكرياً وسياسيّاً وإعلاميّا، هو صمودٌ أسطوريٌ بكلّ معنى الكلمة، وقد ساهم بفاعليةٍ في تغيير الواقع الفلسطيني والإقليمي، بل والدولي أيضاً.
بناءً عليه، قد تتصاعد الضغوط الشعبية داخل قطاع غزّة مطالبةً حماس بإنجاز أيّ اتّفاقٍ يفضي إلى هدنةٍ إنسانيةٍ، ولو كانت مؤقتةً، رغم احتمالية معاودة العدوان مجدّداً بعدها، بل وربّما يستأنف وفق همجيةٍ وإجراميةٍ أكبر وأسوأ، "فالغريق يتعلق بقشةٍ" كما يقول المثل الشعبي. أو ربّما تتصاعد الأصوات المطالبة حركة حماس بقبول شروط الاحتلال لإنهاء العدوان، مهما كانت وبأيّ ثمنٍ كان. طبعاً نتمنّى ألا يحدُث ذلك، لكنه احتمالٌ واردٌ بأيّ لحظةٍ، خصوصاً بعد قرابة خمسة أشهرٍ من عدوان الاحتلال الإرهابي. كذلك قد ينجح الاحتلال وداعموه في إحداث اختراقٍ سياسيٍ، داخل القطاع، عبر بناء/ تأطير أداةٍ محليةٍ تابعةٍ له، أو إيجاد ذراعٍ أمنيٍ خاضعٍ له.
لا يخفي الاحتلال نيته اجتياح رفح، ومناطق غزّة الوسطى، بل وكامل قطاع غزّة، مهما تطلب ذلك من إجرامٍ، ومن قتلٍ للمدنيين الفلسطينيين
أيضاً قد تتصاعد الضغوط الفلسطينية السياسية، كما في مطالبة رئيس سلطة التنسيق الأمني، محمود عبّاس، حركة حماس إنجاز صفقة تبادل الأسرى بسرعة، "نحمّل الجميع مسؤولية وضع أيّة عراقيل من أيّة جهةٍ كانت لتعطيل الصفقة". إذ توحي تصريحات عبّاس بأن "حماس" تعطّل صفقة تبادل الأسرى، متجاهلاً تفاصيل الصفقة، ومطالباً الحركة بإنجاز الاتّفاق حالاً، رغم حرص "حماس" على إنهاء العدوان قبل إتمام صفقة تبادل الأسرى كاملةً، فالهدنة التي يطرحها الاحتلال وداعموه مؤقّتة لا تتضمّن أيّ إشارة لإنهاء العدوان، بل يؤكّد الاحتلال على عزمه استئناف عدوانه وإجرامه بوتيرةٍ أسرع وأخطر بعد انقضائها، إذ لا يخفي الاحتلال نيته اجتياح رفح، ومناطق غزّة الوسطى، بل وكامل قطاع غزّة، مهما تطلب ذلك من إجرامٍ، ومن قتلٍ للمدنيين الفلسطينيين، أطفالاً ونساءً ورجالاً. وعليه، قبول "حماس" بإتمام صفقة تبادل كل الأسرى قبل إنهاء العدوان، وفق مطالب عبّاس، تعني استمرار إبادة الفلسطينيين جماعيّاً على أيدي قوات الاحتلال الصهيوني، كما تعني خضوع "حماس" وغزّة وكل فلسطين لشروط الاحتلال لاحقاً لإنهاء العدوان.
إذاً، تتصاعد الضغوط الداخلية الفلسطينية الممارسة على حركة حماس مع كلّ يومٍ من العدوان الصهيوني الإرهابي، بعضها شعبيةٌ وأخرى فصائليةٌ؛ أو بالأصح سلطويةٌ، كما لا يمكن استبعاد تمكّن الاحتلال من تشكيل مليشياتٍ عميلةٍ تخضع لأوامره كلّيًا. لذا على حماس التفكير جديًا بهذه التحديات الداخلية، حتّى لو كانت احتمالية حدوثها أو تعاظمها قليلة، إذ هناك أطرافٌ عديدةٌ (فلسطينية وإقليمية ودولية فضلاً عن الاحتلال) تسعى إلى إثارة هذه الأزمات وتغذيتها، فإن كان تأثير الاحتلال محدودا على الفلسطينيين، إلّا أنّ تأثير بعض الأطراف الفلسطينية، وربّما الإقليمية، ليس كذلك، خصوصاً إن أتقنوا دور الحريصين على سلامة الفلسطينيين وحياتهم داخل قطاع غزّة، ونجحوا في تصوير تمسّك الحركة بشروطها لإتمام صفقة تبادل الأسرى على أنه سعيٌ إلى الهيمنة على الساحة الفلسطينية فقط، أي مكاسب ضيقةٍ على حساب دم المدنيين وأراوحهم.
تخلّي حركة حماس عن لعب الدور الإداري لن ينتقص من قوة تأثيرها أو حتّى من بروزها، بل على العكس سوف يعزّزهما
من هنا، على حركة حماس التمييز بين مسألتي الإدارة والتأثير، فالأولى مسألةٌ روتينيةٌ تضع حامليها في واجهة الأحداث، حتّى لو لم يملكوا القدرة على التأثير فيها، في حين تعني الثانية القدرة على توجيه الأحداث والتحكّم بها، بفعل الانتشار والمصداقية والتمثيل، بعيداً عن الأضواء الإعلامية والسياسية، في هذا الشقّ لا يبدو هناك أيّ طرفٍ فلسطينيٍ يحظى بتأثير حركة حماس في الساحة الفلسطينية، بل وربّما في الساحتين الإقليمية والدولية أيضاً، بل تتفوّق حماس في قوة تأثيرها تفوّقاً كبيراً على أقرب منافسيها، المتمثل في حركة فتح، إذ خسرت الأخيرة جزءاً كبيراً من تأثيرها منذ سنواتٍ عديدةٍ، لأسبابٍ عديدةٍ.
بناءً عليه؛ يعتقد الكاتب أنّ تخلّي حركة حماس عن لعب الدور الإداري لن ينتقص من قوة تأثيرها أو حتّى من بروزها، بل على العكس سوف يعزّزهما، كما يعتقد الكاتب أن هناك شخصيات فلسطينية كثيرة وطنية غير حزبيةٍ أو فصائليةٍ، بل ربّما مواقفها أصلب وأرسخ من أجسامٍ سياسيةٍ فلسطينيةٍ عديدةٍ، تحظى بقبولٍ شعبيٍ داخليٍ، خصوصًا داخل قطاع غزّة؛ كما تحظى بقبول حماس، يمكن أن تتحمّل إدارة المسؤوليات اليومية (الإغاثة والطبابة والخدمات والتعليم والتوثيق... إلخ)، ويمكنها التواصل اليومي مع الشارع الفلسطيني ومع المجتمع الدولي، ما يمنحها مصداقيةً أكبر من مصداقية الأصوات الانتهازية التي قد تعمل على تقليب الرأي العام الفلسطيني على حركة حماس، لدوافع مصلحيةٍ ضيقةٍ، وخدمةً لمصالح الاحتلال وتوجيهات داعميه. الأمر الذي سوف يصلب موقف حركة حماس التفاوضي، ويعزّز مكانتها الداخلية، ويحرّرها من أعباء إدارة المسؤوليات اليومية، ويحرم الاحتلال وداعميه من ورقةٍ مهمّةٍ عوّلوا ويعوّلون عليها كثيراً.