حرب الغذاء الآتية

26 مارس 2022
+ الخط -

أسّس الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي بدأ في 24 الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، سلسلة مفاهيم لم تكن مُدرجةً في لوائح المبادئ التي سادت في أزمنة الحروب قديماً، تحديداً تلك المتعلقة بقطاع الطاقة وسلاسل التوريد. الحديث في العالم، غرباً وشرقاً، يتمحور حول ارتفاع أسعار النفط والغاز، وانعكاساته على ارتفاع أسعار السلع الغذائية خصوصاً، المرتبطة به. لم يعد العالم "صغيراً" بالمعنى السكاني، ولا بالمعنى التفاعلي بين شعوب الأرض، بعد استيلاد حلقة مترابطة من انتقال السلع والبضائع وفقاً لمقتضيات ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945). لم يعد الحديث ممكناً حول "بقاء" أجزاء من العالم في منأى عن "حربٍ بعيدة" و"غير قريبة منا". أصبحت الحرب في الشرق الأوروبي، وكأنها تدور في المطابخ العربية التي تسابق الوقت لتخزين القمح والزيت.

عشية الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) لم يتجاوز عدد سكان الكوكب الـ1.6 مليار نسمة. وعشية الحرب الثانية، بلغ عدد البشر نحو 2.3 مليار نسمة. وعدا عن أن هذين الرقمين لا يقتربان من العدد الحالي للسكان، الذي يناهز ثمانية مليارات نسمة، فإن الترابط السوقي لم يكن شديداً كما هو في العالم حالياً، والاعتماد على الطاقة عنصراً مشغّلاً لأبسط ركائز الحياة اليومية لمعظم سكان الكوكب لم يكن بهذا الزخم المكثف اليوم كما كان عليه سابقاً. الجميع، بشكل أو بآخر، بات متعلقاً بمعارك كييف وخاركيف وسومي وماريوبول وغيرها. ربما يعود ذلك إلى طبيعة أوكرانيا الجيوبوليتيكية، بوصفها أفضل البلاد عالميا في الزراعة والمواد الخام، لكن أيضاً لأن روسيا، وهي أكبر دولة، تُشكّل مساراً إلزامياً لسلاسل توريد تمتدّ من الشرق إلى الغرب.

يُمكن فهم هذا التحوّل في التفاعل بين دول الكوكب بما حصل في عام 2002، حين تفشى وباء السارس في الصين، لكنه لم يمتد بالسرعة الكافية لتفشّي وباء كورونا في أواخر عام 2019. يعود الأمر جزئياً إلى أن الحركة البشرية عبر الكرة الأرضية كانت أبطأ بكثير منذ عقدين قياساً إلى اليوم. وساهم ذلك، في المبدأ، بمنع التفشّي الكبير لـ"السارس" بشكل مشابه لكورونا. ويمكن عزو الأمر أيضاً إلى أن طبيعة "السارس" مختلفة بعض الشيء عن طبيعة كورونا. بينما لو انتشر "السارس" في أيامنا الحالية، فمن المفترض أن تكون سرعة انتشاره بمفعول سرعة انتشار كورونا.

أفضى هذا التشابك البشري إلى استيلاد عالم مختلف عن السابق، لكنه مترابطٌ إلى حدّ كبير في المآسي والأفراح. وحين تنظر إلى فلسطين وسورية واليمن والعراق، تجد أن التفاعلية مع الأحداث لم تعد حكراً على مجموعةٍ منتقاة من البشر، بل يدرك الجميع أن هناك حرباً مثلاً، وأن هذا الأمر سيؤثر على طبيعة الحركة الاقتصادية.

الآن، تُشكّل أوكرانيا قمة هذا التشابك بين الطاقة وسلاسل التوريد وتورّط دولة كبرى في عملية اجتياح، وهو ما يجعلها محطة مؤسسة لمستقبل مغاير في طريقة تأمين الطاقة والغذاء للكوكب. لا أحد يدري ماهيته، لكنه قد يكون مثقلاً بالمصائب على يوميات شعوبٍ متنامية، إذا لم يوضع حدّ للحرب بطريقة ما. يواصل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، توجيه الرسائل بشأن نقص الغذاء في العالم خلال 12 إلى 18 شهراً المقبلة. لا يقرأ الرجل بياناً ما فحسب، فباريس ليست منظمة غير حكومية، بل يوجّه الرسائل إلى احتمال "حصول شيء" يُنهي القتال بأسرع وقت ممكن. لذلك، يتحدّث المسؤولون الروس عن "محاولات تفكيك روسيا إلى دويلات"، بل يهدّد الرئيس السابق، ديمتري ميدفيديف، بأنه في حال حصل هذا الأمر فإن "الدويلات ستكون نووية، وستوجّه صواريخها إلى الغرب". حرب الغذاء هي الأخطر، والأكيد أن روسيا كبيرة بما يكفي لانعدام ديمومة عزلها طويلاً، والعالم صغير بما يكفي كي تعجز روسيا عن البقاء خارجه. في الحالتين، كل شيءٍ مرتبط بفلاديمير بوتين.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".