حديث في السودان عن "جحيم"
صحيحٌ أنه "لا يمكن تغيير كل شيء بين عشيّةٍ وضحاها"، على ما قال محقّا رئيس الوزراء السوداني، عبدالله حمدوك، قبل أيام لصحيفةٍ فرنسية، إلا أن المواطن السوداني يغالب أوضاعا اقتصادية ومعيشية لم يتوقف تردّيها، منذ العشيّة التي بدأت مع تولي حكومة ما بعد خلع النظام السابق مسؤولياتها، في أغسطس/ آب 2019، وصولا إلى الضحى الراهنة، والتي رفعت فيها هذه الحكومة (الانتقالية)، الأسبوع الماضي، أسعار الوقود أزيد من 100%، أياما بعد رفعها الدعم عن بعض السلع، وإعلانها تعويم الجنيه، ما أحدث احتجاجاتٍ غاضبةً في العاصمة، أدّت إلى إغلاق شوارع. وإذا صدّقنا، مثلا، أن المواطن السوداني يتفهم الأوضاع الصعبة في بلاده، ويتحلّى بطول البال، إلا أنه لم يعد في وسعه أن يشتري الكلام الذي يستطيب الاسترسالَ فيه أهل الحكم والقرار في بلاده، عن مسؤولية ثلاثين عاما من سوء الإدارة عن الوضع الحالي. ولم يعد مطمئنّا إلى أن تغيّرا ظاهرا سيستجدّ عليه، فتتحسّن مداخيله، وتتيسّر سبل عيشه، سيما وأن المعطيات التي تتراكم قدّامه لا توحي بأن الوعود الغزيرة التي يسمعها، في هذا كله، في سبيلها إلى التحقق. وفي البال أن السودان يقع تحت ضغوط مطالب ملحّة لصندوق النقد الدولي، توجب على الحكومة إجراءاتٍ قاسيةً على المواطن، من قبيل رفع أسعار الوقود، الأمر الذي ظلّ غالبا سبب توتراتٍ واسعةٍ في غير بلد. وهذا إنتاج القمح جاء في الموسم الماضي مخيّبا للآمال، بتعبير وزير المالية، جبريل إبراهيم، 400 ألف طن، فيما احتياجات البلاد 1,6 مليون طن. وإذا كانت شحنة الأمل مسوّغةً بعد "التعهدات" الواسعة في مؤتمر باريس بشأن ديون السودان الشهر الماضي (مايو/ أيار)، وإذا كانت أيضا الوعود الأميركية والأوروبية، في المؤتمر وقبله، بدعم عملية الانتقال السياسي في البلاد، وحماية هذه العملية ماليا واقتصاديا، تشيع ارتياحا، إلا أن استشعار المواطن السوداني تأثيرا ظاهرا على عيشه لهذا كله يكاد يكون معدوما.
في هذه الأثناء، لا يحسُن استقبال بيان حزب المؤتمر الشعبي (أسّسه حسن الترابي) عن بؤس الأحوال في البلاد تمثيلا لمكايدة أو نكاية سياسية، أو تصريفا لغضب حزب إسلامي من إقصائه، وإنما الأدعى تفحّص مضامين هذا البيان واختبار صدقيّتها، والكف عن رمي كل كلام يشابهها بالشعبوية. يقول البيان، الصادر قبل يومين، "الحياة في ظل هذا النظام أصبحت جحيما لا يُطاق"، وذلك بعد "مواصلة مسلسل التردّي الواضح في كل شعاب الحياة من مأكل ومشرب وأمن". وبحسب البيان الذي يضجّ بالسخط، "الحكام لا يحسّون بسوء الأحوال المعيشية التي وصل إليها الناس، مع الغلاء الطاحن، والفقر المُدقع، وصعوبة الحصول على متطلبات الحياة، من وقود وخبز والمعاناة في الحصول على مياه الشرب، وضنك العيش". ويضيف "الناس امتلأوا ألما وبؤسا وشقاءً وإحباطا". وأنه "بدلا من بحث الحلول الناجعة، ما زالت الحكومة تتوعد شعبها بأن رفع الدعم عن الخبز وغاز الطبخ سيأتي في وقت لاحق".
وحده المواطن السوداني في أطراف بلده وهوامشها، في وسطها وحضرها وأريافها، في العاصمة والمدن الكبرى، من شرائح متعدّدة، هو الذي يفيد مراقبا من الخارج بما إذا كان الذي جهر به الحزب السوداني، الإسلامي، صحيحا ناطقا بالحق والحقيقة، أم أنه كلامٌ تعبويٌّ يُراد منه استثمار أحوال الناس لتأليبهم على الحكم والحكومة. ذلك أن مطالعة تصريحات عبدالله حمدوك ووزراء حكومته (قبل التعديل أخيرا وبعده) عن رهاناتٍ على الدعم السياسي الخارجي، وعن استثماراتٍ منتظرة بعد رفع اسم السودان من القائمة الأميركية للإرهاب، لا تفيد تماما في استكشاف المشهد السوداني المُقلق، المأزوم ربما، المفتوح على حزمةٍ من احتمالاتٍ غير منظورة. ولا يغفل واحدُنا، وهو يسترسل بمثل هذا التشخيص للحظة الداخل السوداني الراهنة، عن نجاحاتٍ منظورةٍ أمكن لحكومة حمدوك أن تنجزها، على صعيد التسويات المهمة مع حركات تمرّدٍ جهويةٍ غير قليلة في البلاد. وفي المقابل، لا يغفل عن وقوع هذه الحكومة تحت سطوة المكوّن العسكري في مجلس السيادة، الانتقالي، فضلا عن أنه لا يغفل عن بؤس كذبٍ كثيرٍ روّج منافع شاسعة على اقتصاد السودان من اتفاقية التطبيع مع إسرائيل...