حديث عن العسل

01 سبتمبر 2017

أصناف من العسل التركي في متجر ببرلين (9/3/2010/فرانس برس)

+ الخط -
كنّا هناك، ثمانية صحافيين ومرافقون من وزارة الإعلام السودانية، في نزلٍ (ليس فندقا تماما)، في نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور في غرب السودان. جاء إلينا صباحاً بائع عسل، ربما كنّا على موعدٍ معه، ففي اليوم السابق، حدّثنا غير واحدٍ عن وجوب أن لا نغادر إقليم دارفور من دون أن نبتاع شيئاً من عسله. أطنب البائع الشاطر في مديح سلعته، وأقنعنا بكثيرٍ مما قال، ولم نكن في وارد أن نجادله في أمرٍ لا أحد منا على درايةٍ مكينةٍ فيه. لا أنسى قوله، وكانت الحكاية قبل تسع سنوات، إن عسل دارفور ليس الأجود في السودان فقط، ولا في أفريقيا فحسب، وإنما في العالم كله. غبطت الشاب، الأسمر والطريف، على ثقته الفائضة عن اللزوم بما قال. وعندما أحسّ أن "شكوكا" ساورتنا في صدقية ما "فاجأنا" به، أضاف، من عنديّاته على الأرجح، إن زائراً أميركياً أخبره بهذه "الحقيقة"، استناداً إلى أبحاثٍ علميةٍ أُنجزت في الولايات المتحدة. حاول صديقنا اليمني (ع. ع) أن يأخذ ويعطي معه، ذَوداً عن أفضلية عسل بلاده، الأكثر شهرةً، والحق يُقال، عن هذا الدارفوري الذي قدّامنا، وإنْ أطنب صاحبنا في شرح فوائده العلاجية، لكل الأمراض تقريباً بحسب ذمته الواسعة. ثم آثر (ع.ع) الصمت، والمشاركة معنا في بعض المزاح المسترسل كيفما اتفق، وكسبا للوقت أيضا. انتهت زيارة البائع الشاطر بما أراده، فقد اشترينا ما اشترينا، وزيد عليه أن مضيفينا أهدونا، مشكورين، مقداراً مضافاً من عسل دارفور الذي تعرّفت عليه للتو. وتأكد تاليا لي ولزملائي أنه طيب وشهي.
معلومٌ أن حسم العسل الأصلي من المغشوش يحتاج خبرة ومعرفة موثوقة، إذا أُنجزت فعلة الغش باحترافٍ عال. أما إذا كان الغشّ مفضوحا وأبلج (إذا أفرطنا بالفصحى)، فلا يحتاج كشفُه إلى اختصاص. ولا أنسى طرائف صديقي خيري منصور، ذات مساء قبل تسعة وعشرين عاماً، في مطرحٍ مكشوف في بغداد على نهر دجلة، لمّا مر بنا، ونحن نشرب شايا أو نأكل شيئا، رجلٌ متقدّم في السن، يحاول أن يقنعنا بأن ما يريد بيعه لنا عسل. اكتفى خيري بتذوّق ما قدّمه لنا هذا البائع غير الحاذق، ثم أطلق ضحكةً شاسعة، ورمى الرجل بجملةٍ ساخرةٍ ماكرة، ونصحه بالابتعاد عنا وعن غيرنا.
الأمر مختلفٌ في بورصة، المدينة التركية القريبة إلى حد ما من اسطنبول، والمسمّاة في واحدٍ من أوصافها "هدية الله"، من فرط جمالها. على ربوةٍ في الطريق إليها، عامرةٍ بالغابات، وفي محلٍّ صغير، على مبعدة أمتار من "منحلةٍ"، يبيع العسل التركي، المنتج في بورصة تحديدا، أستمع فيه، قبل يومين، مع جمعٍ من الناس، إلى شاب يتقن العربية، يشرح بإسهاب تفصيلي، فيه كثيرٌ من شطارة التجار، غير أن الأهم أنه يروّج عسل الكستناء وعسل الصنوبر، من بين أصنافٍ أخرى جاء عليها عرضا، غير أنهما استأثرا بكلامه. ولعمري، هذه هي المرة الأولى التي يُلقى فيها على أسماعي أن ثمّة عسلا من رحيق النحل على زهرات شجر الكستناء، وآخر منه على شجر الصنوبر. قال الشاب إن الأول ذو فائدة عظمى لإنهاء التهاب الشعب الهوائية، وتجعل المواظبة على تناوله التنفس أفضل. أما الآخر، فإنه يساعد في إنقاص الوزن، ويكاد يعدّ منتجا طبيا. قال الشاب كثيرا عن العسليْن، وعن أسعارهما. لم يحفل بغير ذلك، من قبيل أن يأتي على إنتاجية العسل في تركيا عموما، بتنويعاته العديدة، والتي عرفتُ، لاحقا، أن الرئيس أردوغان معتاد يوميا على تناول عسل الكستناء منها، وأن هذا ما يجعله فائض الحيوية، في غير مناسبةٍ ونازلة. لم يكن الشاب، وهو يردّد كلامه، المقنع غالبا، في حاجة إلى ما تزيّد به ذلك السوداني في دارفور، في الثناء على بضاعته، فتركيا ثاني بلدان العالم (بعد الصين) إنتاجا للعسل، وأظنها الأبرع في تسويق منتوجها الذي يصل إلى مائة ألف طن سنويا، وثمّة من يقول إن العسل التركي أجود أنواع العسل وألذّها طرّا. وبشأن ذاك الذي من زهر الصنوبر، فإن الأتراك ينتجون 92% مما في العالم منه. أما قرينه، عسل الكستناء، فلا أحسم ما إذا ينتجه غيرهم أيضا.
ما أخبار عسل اليمن، والجائحة هناك على ما نتابع ونعرف؟ ما آخر أخبار عسل العراق، بعيدا عن ضحكة خيري منصور الباقية؟ هل من جديدٍ عن عسل إقليم دارفور في السودان؟ جعل الله شهورنا عسلا، وكل عام والجميع بألف خير.
دلالات
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.