حاشية على نجاحات صحافية
كأنها عُقدة الأزهري، رفاعة الطهطاوي، إيّاها ما تزال تقيم فينا، منذ أعلن دهشتَه مما شاهد من تقدّمٍ في باريس، في سنوات مقامه الخمس فيها مبتعثا ليتعلّم، قبل أقلّ من قرنين، وجهر، في كتابٍ شهير، بمقارناته بين حال الفرنسيين وحال العرب والمسلمين، ومن كثيرٍ كتَبه إن الباريسيين لا تمضي سنةٌ إلا ويكتشفون جديدا في الفنون والصناعات، وإن توقَهم إلى الفهم والاستطلاع متأصّل فيهم. نجدها تلك العُقدة، أو ربما بعض بقاياها، فينا، عندما نلقى الرئيس الأميركي، جو بايدن، يستشعر حرجا أمام الأميركيين، عندما يهمّ بزيارة العربية السعودية، فينشُر مقالا باسمه في "واشنطن بوست"، ليوضح المصلحة الأميركية العليا في زيارته هذه. لنعرف، للمرّة المليون على الأقل ربما، ما للرأي العام عندهم هناك من وزنٍ يهابُه صاحب الولاية والسلطة، الأمر الذي يعصى عليك أن تقع على شيءٍ منه في ربوعنا الزاهرة، فالحاكم العربي يفاجئ مواطنيه بعقد اتفاقات تحالفٍ مع عدو الأمة، دولة الاحتلال، ولا يجد لرعاياه حقّا في أن يسمعوا منه بواعثه في أخذ البلاد إلى هذا السوء. وقد أوْلى بايدن، في نشرِه المقال، الصحافة اعتبارَها، ودلّل على البديهي عن دورها ومقامها وسلطتها في الفضاء العام. ولا يمكن أن تُنسى واقعة تقريع مجلة دير شبيغل، الألمانية، في مقالٍ نشره أحد محرّريها، الفيلسوف الألماني، يورغن هابرماس (92 عاما)، لقبوله أن يكون شخصية العام (2021) لجائزة الشيخ زايد للكتاب، بدعوى أن الإمارات التي تقدّم هذه الجائزة دولةُ قمع، تنعدم فيها الديمقراطية، فما كان من "فيلسوف الجمهورية الألمانية الجديدة"، بحسب واحدةٍ من صفاتٍ له، إلا أن سَحبَ قبوله الجائزة (250 ألف دولار)، فبان، لنا هنا، مجدّدا، ما عندهم هناك من سلطةٍ للصحافة، إلى حدّ أنها "تُعلّم" الفيلسوف ما يحسُن أن يتعلّمه، ثم نضطرّ إلى أن نرتدي ثوب رفاعة الطهطاوي ذاك، فنقول ما يجري عليه القول عن صحافتهم هناك وصحافتنا هنا.
ليس صاحب هذه الكلمات ممن يستطيبون استسهال الحطّ من الصحافة العربية، وإطلاق الأحكام المعمّمة التي تُبخّس منجزاتها وحضورها، مع الإفراط في مديح صحافات الغرب المتقدّم. لا، فثمّة كثير في الصحافة العربية متميزٌ وطيّبٌ، بل وفريدٌ أحيانا، وشديد الأهمية، تراكم منذ عقود. وثمّة أيضا تراجعاتٌ راهنةٌ ظاهرةٌ عن هذا، لغير سببٍ وسبب. وينسحب الأمر على صحافاتٍ مكتوبةٍ وإلكترونيةٍ وسمعيةٍ بصرية. والمؤكّد أن ثمّة مواهبَ عاليةً وقدراتٍ طيبةً في مؤسّساتٍ إعلاميةٍ عربية، تحتاج إلى فرصها لتُعطي وتُنجز وتنافس وتتميز. والبديهي أن عطاء هؤلاء يتطلب بنىً وهيكلياتٍ مؤسّسيةٍ تتوفر على كفاءاتٍ إدارية ومهنية، وصحافيين ومحرّرين ذوي تدريبٍ وتأهيلٍ وخبرة، وإمكانات ماديةٍ مناسبة، إذا اجتمعت، جميعها، على رؤيةٍ تعرف حقا دور الصحافة الحقيقي وسلطتها ووظائفها، وتحوز مساحاتٍ جيدةً من هوامش الحريات، مع درايةٍ لازمةٍ بفنون الأداء الإعلامي والتواصلي وألوانهما، في غير نوعٍ وجنسٍ صحافي، وفي غير ميدانٍ وحقل، في السياسة والاقتصاد والفنون والاجتماع و...
ومع التسليم بالبديهيات أعلاه، يحسُن الحذر من النوم عليها، واستطابة المكوث فيها، إذ من اللازم أن يُعرَف جيدا أن المتميّز والحسن المشار إليه صار قليلا (أو شحيحا؟)، في الطور البائس الذي يعبُر فيه راهنا حالُ الصحافة والسياسة في غير بلدٍ عربيٍّ، حيث الركض القهقرى على غير صعيد، سيّما مع استسهال تسميته صحافةً كلاما كثيرا مما يدبّ ويهبّ في "السوشيال ميديا"، مع ما يُحدثه هذا من خرابٍ ظاهرٍ على مهنة الإعلام وأهلها. وفي هذه الغضون، لم نعد نُصادف نجاحاتٍ بارزةً، أو كبرى، في الصحافة العربية (سيما المكتوبة والإلكترونية)، إلا نادرا جدا. ومع شيوع الثرثرة واجترار الكلام المكرور والمعلوم، والافتقار إلى الملكات والخيال والسعة اللغوية في صحافة الرأي، لا يصير جلْدا للذات أن يؤشّر واحدُنا إلى هذا التراجع في الصحافة العربية، ويرى مواضعَه، غير القليلة، مع وجوب تعيين تميّزٍ ظاهر هنا وهناك. وفي الأثناء، نسعَد بنجاحاتٍ متواترةٍ لزملاء عرب ومؤسساتٍ إعلامية عربية تشارك، تحت قيادة الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين (ICIG)، في إنجازاتٍ مهمة، جديدها أخيرا تحقيقات "وثائق أوبر"، والتي كشفت فسادا متطاولا، بعد تحقيقات "وثائق باندورا" و"وثائق بنما" وغيرها. .. يسّرت "أوبر"، أخيرا، مناسبة السطور أعلاه.