جائزة تشبه سركون بولص
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
امتازت قصائد الشاعر العراقي، سركون بولص، بالعمق في اقتناص الصّور وبشعرية اللغة. لذلك يتلمس من يقرأه، كل مرة، عالما جديدا متفاعلا مع اليومي والمعاش. وكأنما سركون، في بداية انطلاقته لتدبيج قصيدته، بصدد كتابة قصة ذات أبعاد واقعية، لكون شعره منسوجا نسجا حياتيا، بدون بهرجةٍ ولا تقعّر، ولكنه نسج ما يلبث أن يرتفع ويحلّق ببساطه السحري، وسجادته اللغوية القشيبة التي تخترقها أضواء صور شعرية، هي من الروعة والخلق والإبداع إلى درجةٍ تشعرك بأنك أمام شاعر عالمي آسِر، عرف كيف يروّض العربية، فانقادت له وعشقته، فعشقها وتاه في حقولها باحثا عن جواهرها الدلالية.
حين تحلّ ذكرى وفاة الشاعر العراقي، سركون بولص، يوم 22 أكتوبر/ تشرين الأول، تمتلئ صفحات ثقافية وخاصة لأدباء عديدين، بإحياء لذكرى شاعر جدّد في قصيدة النثر، انطلاقا من أمرين: قراءته المباشرة لشعراء العالم، وفهم وسبر المتن الشعري العربي الكلاسيكي العريق؛ فمن خلال القصائد الأولى التي نشرها في مجلتَي شعر والكرمل، نتعرّف على موهبة واضحة للاعبٍ مُتمرّس بالصور والكلمات، انتقل، بهدوء العارف، من شكل شعري راسخ له شروطه الإيقاعية إلى شكلٍ جديدٍ عماده الاحتفاء بتفاصيل اليومي والصور البليغة الفارقة. وقد تجلّى تفرّد سركون وتميزه في اجتراح هذه الصور، منذ ديوانه الأول "الوصول إلى مدينة أين" (1985)، الذي نشره، وهو في عمر الأربعين، وعُدّ بمثابة "فتح" في الشعرية العربية، سواء من خلال عنوانه الدافع للدهشة، أو من خلال متنه الغني بلاغةً وصورا وحياة وعمقا.
يوم وفاته، أصدرت مجلة "كيكا" الإلكترونية، التي يحررها الكاتب العراقي المقيم في لندن صموئيل شمعون، ملفا متسلسلا عنه. وهناك من عدّ عنوان هذا الدّيوان أفضلَ العناوين الشعرية العربية على الإطلاق. ولعلّ ما زاد الديوان إدهاشاً أنه صدر حينئذ عن دارٍ لم نعرف لها إصدارات أخرى. تحمل اسم "سارق النار"، خرجت من أثينا موطن بروميثوس، الذي تخلى عن تعاليه وأنانيته، حين سرق النار من الآلهة، ليهديها للأرض، فتمّت معاقبته بالطريقة التي نعرف (نسر يأكل كبده كل مساء).
ذاع ذاك الديوان على نطاق واسع، وعُدّ حينئذ أفضلَ دواوين الشعر.. أتبعه بعد ذلك بعناوين لا تقلّ شاعرية، منها "الحياة قرب الأكروبول" و"الأول والتالي" و"حامل الفانوس في ليل الذئاب" و"إذا كنت نائما في مركب نوح" الذي صدر عن دار الجمل التي ربما أروع ما قامت به، فوق إصدارها عديدا من كتب سركون بولص ودواوينه، حتى بعد رحيله، أنها استحدثت (في 2017) جائزة باسمه، في الذكرى العاشرة لرحيله. ويتضح أنها تسير بخطى ثابتة نحو تعزيز اسمها في قائمة الجوائز الشّعرية الأساسية، إذ مُنحت لشعراءَ من الهامش، أو بصورة أدق لشعراء ألهاهم، عن البروز الإعلامي، البحث في صياغات شعرية جديدة؛ حيث نالها في دورتها الأولى الشاعر المغربي مبارك وساط، ثم التونسي آدم فتحي، وقبل أيام، فاز بها الشاعر المصري عماد أبو صالح الذي يطبع قصائده بنفسه، ولا يبيعها..
على الرغم من أن سركون أمضى معظم حياته في المنافي، فإنّ العراق لم يكن يفارقه، فبلده حاضر في جلّ قصائده، مثل أرضٍ متنقلة، تحولت من قاعدة واقعية غادرها صغيرا إلى أرضٍ حقيقية لشعره، يحزن لحزنها ويتقطع قلبه لمآلاتها. يقول، في أحد مقاطعه الشعرية "بغدادُ سُنبلة تشبّثَ بها الجراد". وكان العراق، بآلامه وتاريخه العريق، متشبثا بنياط قلب هذا الشاعر الأشوري المشرّد، يطارده في أحلامه ويقظته، ويغزو لحظات سرحانه ويطغى على أحاديثه.
زار سركون مسقط يوما، ضمن وفد ثقافي ضمّ شعراء عربا عديدين، لكنه لم يعد منها بانتهاء برنامج الرحلة، بل مدّد فيها إقامته، بعدما أسرته المدينة التي ربما ذكّرته بعوالم الشرق القديمة، إلى جانب لطف كتّابها ومثقفيها وقد أحاطوه بالعناية، وهو الغريب في العالم الشاسع. أتذكّر مرّة كنا نتمشى على أقدامنا في مدينة السيب المتاخمة لمسقط، فالتقينا براعية غنم وابنتها، فجاءت الراعية لتسألنا عن أمر لم أعد أتذكّره، فتبعها قطيع غنمها وأحاط بالشاعر!
وكان سركون في جلساته حالما أقرب إلى الصمت واللطف والهدوء، يُشعرك وجوده أنك أمام شاعر. .. كتبت الشاعرة والأكاديمية العمانية، فاطمة الشيدي، عن رحيله: "فادحٌ غيابُ شاعر مختلف في رهافته وعمقه ولذة انثيال الشعر بين أصابعه وعلى لسانه. قرأته وأنا على مقاعد الدرس في الجامعة.. وكم هالني ذلك الغنى في نصه وصوره وجماليات قصيدته".
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية