تونس بين تعزيز الديمقراطية واستنزافها

16 يونيو 2021
+ الخط -

لا يمكن أن ننفي الأثر العميق للثورة التونسية، والتحولات التي أحدثتها في الوعي المجتمعي عموما. ويكفي أن تتحول الحرية إلى المبدأ الأساس الذي يتحكّم في الرأي العام، وما بثته من روحٍ نقدية لدى الجمهور، وهو ما يمثل الركيزة الأهم في بناء الديمقراطية التي ما زالت تتحسّس طريقها في تونس. وإذا كانت المشكلات الاقتصادية والأمنية هي من قبيل القضايا المعتادة بالنسبة لدولةٍ ناميةٍ هي جزء من محيط دولي وإقليمي متوتر ومضطرب، فإن أزمة الوعي السياسي، إن صحّ التعبير، تظل المشكلة الأكثر خطورة وتأثيرا على مستقبل المسار السياسي في تونس، فالممارسة الديمقراطية تستلزم حضور نخبةٍ سياسيةٍ واعيةٍ ومؤمنةٍ بأهمية التحولات السياسية، مع ما يفترضه الأمر من مراجعة مسلّماتٍ فكريةٍ تحكم النخبة السياسية في تونس، وتشكل البنية العميقة التي تنجم عنها كل الأعراض المختلّة في المشهد الحزبي والسياسي التونسي.

يكتشف المتابع للوضع التونسي الحالي حالة من تراجع الأداء الحزبي في مقابل المبالغة في الاحتفاء بدور المنظمات والجمعيات والنقابات، والتي مهما كانت أهمية الأدوار التي تقوم بها، فإنها لا تستطيع الحلول محل الأحزاب، ولا أن تستوفي مهمتها الأساسية في مجال التنافس السياسي، حيث تبقى الأحزاب السياسية الآلية الأساسية للعمل السياسي، وأن ضعفها لا يعزّز المسار الديمقراطي، بقدر ما ينشئ حالة من الجمود السياسي، ويفتح المجال لصعود الشعبوية، وربما التمهيد لانتكاس الانتقال الديمقراطي برمته.

لا يمكن إنكار الدور السلبي الذي لعبته القوى الحزبية في تشويه العمل السياسي، وهو ما أدى إلى نمو مشاعر سلبية إزاءها لدى غالبية الناس

غير أنه لا يمكن إنكار الدور السلبي الذي لعبته القوى الحزبية في تشويه العمل السياسي، وهو ما أدى إلى نمو مشاعر سلبية إزاءها لدى غالبية الناس، فصعود أحزاب وشخصيات لا تؤمن بالديمقراطية، وتعتبر الثورة مؤامرة، وتحاول عرقلة المسار الديمقراطي، هي إحدى مظاهر الأزمة الحالية. وفي الوقت نفسه، هي تعبيرٌ عن عُسر الانتقال الديمقراطي في تونس، والمخاطر التي تتهدّده، فممارسات الحزب الدستوري الذي تتزّعمه عبير موسي، سواء داخل البرلمان، أو من خلال الخطاب الذي يحاول ترسيخه، مستفيدا من الأزمة السياسية، ومناخ الحريات، هو بالتأكيد أحد مظاهر دراما المشهد السياسي التونسي، فهؤلاء الذين لم يكن طموحهم السياسي زمن الاستبداد يتجاوز الوقوف للدكتاتور من أجل الهتاف أو التصفيق، استغل المشهد الديمقراطي، ليصنع لنفسه حضورا سياسيا مبنيا على الحنين لزمن الطغيان. في المقابل، الأحزاب التي تدّعي الانتساب للثورة تتنازع المواقع والنفوذ، ولا تقدّم خطابا مطمئنا للشارع، أو إنجازات فعلية. ويكفي، في هذا السياق، العودة إلى الخيبات التي رافقت حكومة إلياس الفخفاخ المستقيلة، لندرك عمق الفشل الذي يرافق هذه الأحزاب، فالحكومة المستقيلة، والتي ضمت تحالفا حزبيا ضم حركة الشعب والتيار الديمقراطي وحركة النهضة وحزب التكتل وأحزابا أخرى ظلت تتنازع المواقع، وتتبادل الاتهامات، انتهاءً بفيض التجاوزات في الممارسة، وما رافقها من تهم الفساد وسوء التصرّف والتربّح من المنصب، وهو ما أفقدها دعم جانبٍ مهم من الجمهور الذي منحها الأصوات وراهن عليها. وإذا أضفنا إلى هذا حالة التعطيل التي تبديها رئاسة الجمهورية إزاء استكمال المؤسسات الدستورية، ودخولها في تجاذبات حادّة مع الحكومة التي تعاني شللا، بسبب رفض رئيس الجمهورية إقرار التعديل الوزاري الذي شمل ثلث وزرائها، وما رافق أزمة الحكم من فوضى الشارع، فإنه يمكن القول إن الانتقال الديمقراطي يمرّ بأسوأ فتراته وأشدّها عسرا، في ظل حالة من الاستنزاف والشلل، المرتبطة بعدم الاستقرار السياسي الممتد، وازدياد عدم ثقة المواطنين في المؤسسات ومسؤولي الدولة، بعيدا عن استطلاعات الرأي الزائفة التي تقوم بدور دعائي لصالح هذا الطرف أو ذاك، لأن غالبية الجمهور في حالة عزوفٍ عن السياسة، فضلا عن تأييد مواقف هذا الطرف أو ذاك.

عندما يتوقف استفحال الاستقطابات الاقتصادية الفئوية، يمكن القول إن المسار الديمقراطي قد اكتمل وحقق أهدافه في بناء نظام مستقر

الدور السلبي الذي لعبته القوى الفاعلة سياسيا من أحزاب ومنظمات وشخصيات رسمية ووسائل إعلام هو الذي أدّى إلى حالة الجمود الحالي، وتباطؤ تطوير الممارسة الديمقراطية في البلاد. وإذا كانت بعض هذه القوى تتعمّد هذا الفعل، لأنها تسعى فعليا إلى إجهاض التجربة برمتّها، فإن أطرافا أخرى بعضها في السلطة، وبعضها من المعارضة، تدفعها رغباتها السلطوية، وسعيها إلى التموقع بما يحقق لها أكبر درجة من النفوذ (وهو ما نلاحظه في تنازع الصلاحيات بين رئاستي الجمهورية والحكومة)، أدّى إلى الإضرار بالمسار الديمقراطي.

تعزيز الديمقراطية وترسيخ مسارها لا يتحققان إلا عندما يؤمن الفاعلون السياسيون الأساسيون، ومن ورائهم الرأي العام، بأن العملية الديمقراطية سوف تستقر. وعندما يتم استكمال تركيز كل مؤسسات النظام السياسي، وعندما تمارس الحكومة المنتخبة سلطاتها كاملة من دون وصاية أو وجود مجالات نفوذٍ تحت هيمنة قوى حزبية، أو نقابية. ويتوقف استفحال الاستقطابات الاقتصادية الفئوية، عندها فقط يمكن القول إن المسار الديمقراطي قد اكتمل وحقق أهدافه في بناء نظام مستقر. وعلينا أن نتذكّر أن الحفاظ على الديمقراطية، خصوصا في مراحلها الأولى، يمثل مهمةً لا تقل صعوبة عن إقامتها.

 

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.