عن ثنائية المعارضة والسلطة في أفريقيا

28 يونيو 2024
+ الخط -

في زمن الاستقلال في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، بدأت بلدان أفريقية عديدة حياتها السياسية الجديدة، في ظل حكومات منتخبة ديمقراطياً، في بيئة تميزت بنظام التعدّد الحزبي الذي أنشئ قرب نهاية الحقبة الاستعمارية. وبعد فترة وجيزة، هيمنت أنظمة الحزب الواحد والمجالس العسكرية على الحياة السياسية في معظم البلدان الأفريقية. تعمّدت الأنظمة السلطوية تهميش أحزاب المعارضة، أو حتى الأحزاب السياسية بشكل عام التي جرى حلّها، واعتبارها شيئاً لا لزوم له. ومع تراجع حدّة الحرب الباردة، اضطرّ معظم الزعماء الأفارقة، بسبب الضغوط المحلية المقترنة بالضغوط الدولية، إلى الاستسلام للدعوات المطالبة بالانفتاح السياسي، وإعادة تأسيس نظام التعدّدية الحزبية. بعد ذلك، جرى إنشاء أو إعادة بناء عشرات من الأحزاب السياسية في كل من البلدان المعنية، بهدف محدّد هو الوصول إلى السلطة التنفيذية العليا.

لم يكن اعتراف بعض الأنظمة الأفريقية بالتعدّدية الحزبية مدخلاً لتداول السلطة، فلم يجر تسجيل سوى تغيير واحد للرئيس في جميع أنحاء القارة 

لم يكن اعتراف بعض الأنظمة الأفريقية بشكل مبكّر بالتعدّدية الحزبية مدخلاً لتداول السلطة، حيث لم يجر تسجيل سوى تغيير واحد للرئيس، في أعقاب الفوز الانتخابي لحزب سياسي معارض في جميع أنحاء القارّة، وكان ذلك في موريشيوس في يونيو/ حزيران 1982. كما جرى إجهاض تجربتين مماثلتين في سيراليون في مارس/ آذار 1967، وفي ليسوتو في يناير/ كانون الثاني 1970، في أعقاب الانقلابات العسكرية. لكن بين عامي 1990 و2024، كان هناك نحو 32 انتصاراً للمعارضة الحزبية في 19 دولة في القارّة. ينبغي أن يُلاحظ في هذا السياق أن بعض الدول شهدت تغييراً على رأس السلطة عبر الانتخابات أكثر من مرة كما حدث في تونس (2014 و2019)، وزامبيا (1991 و2011)، أو حتى ثلاثة أضعافه في بعض البلدان، مثل السنغال (2000 و2012 و2024)، وغانا (2000 و2008 و2016)، وحتى أربعة أضعاف كما في الرأس الأخضر (1991، 2001، 2011 و2021).
يبدو هذا العدد البالغ 32 انتصاراً للمعارضة مخيّباً للآمال، والحقيقة أن العدد الأكبر من دول أفريقيا لم يعرف تداولاً حقيقياً للسلطة طوال تاريخ استقلالها، وحتى اللحظات التي جرى فيها اختراق المنظومة السلطوية الحاكمة عبر الانتخابات جرى إيقاف المسار الديمقراطي بشكل عنيف (انقلاب مصر 2013، انقلاب النيجر 2023). وتثير حالات الانتصار التي حققتها المعارضة الأفريقية فرضيتين: إما أن توجد ديمقراطية كاملة (أو على الأقل ظروف بنيوية مواتية لها) في البلدان التي مرّت بهذه التجارب الـ 32، على عكس البلدان التي لا توجد فيها ديمقراطية، أو أن المعارضة يمكنها أن تفوز بالفعل بالانتخابات، رغم "التزوير"، أو محاولة التزوير من الأطراف الموجودة في السلطة، باعتماد استراتيجيات سياسية معينة. والفرضية الأولى لا تدعمها الحقائق، ولا يسعنا إلا أن نعتمد على الثانية، من دون إنكار أو إهمال الدور الذي يمكن أن تلعبه الظروف البنيوية السلبية في حال وجودها، التي يمكن أن تؤدّي إلى إفشال استراتيجيات المعارضة.
على الرغم من الحرص الرسمي على سياسة التعدّدية الحزبية في القارّة، ولو شكليّاً، وعلى الرغم من الطبيعة التنافسية نسبياً للانتخابات الرئاسية في بلدان أفريقية عديدة، فإن انتصارات المرشّحين الذين قدّمتهم المعارضة لم ترق بعد إلى مستوى توقعاتهم بشأن انخفاض عدد حالات التداول السلمي للسلطة في القارّة، مقارنة بمناطق مماثلة من حيث الديمقراطية، وأبرزها أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية، فإن وتيرة التناوبات السياسية على قمة الدولة لصالح المعارضة متواضعة للغاية في القارّة الأفريقية. ففي بعض الحالات، عندما يصل المرشّح المعارض إلى السلطة يحاول أن ينقلب دستورياً على المسار الديمقراطي. ولهذا الوضع آثار خطيرة على الممارسة الديمقراطية ذاتها. لكن فهم هذه الديناميكية يمكن أن يساعد على تفسير الممارسات أو الميول الاستبدادية لبعض القادة الحاليين الذين استفادوا من الديمقراطية، ثم انقلبوا عليها. سواء من خلال التعديلات الدستورية، مثل التي تهدف إلى إلغاء البنود التي تحدّ من الولايات الرئاسية، مثل عبد الله واد (2012) وماكي صال (2023) في السنغال، أو حتى من خلال فرض دساتير جديدة تخدم مصلحة صاحب السلطة (قيس سعيّد 2022 تونس)، ويبقى السؤال كيف تمكن بعض الحكام الأفارقة من تعديل الدساتير والاستمرار في السلطة، بينما فشل آخرون.

تجربة السلطة تؤدّي لدى عدد من رؤساء الدول إلى تغيّرات نفسية تُفضي إلى أوهام العظمة والمواقف النرجسية وغير المسؤولة

والعوامل التفسيرية المطروحة هي عوامل محلية (ضعف المعارضة على سبيل المثال) وأجنبية (الاعتبارات الجيواستراتيجية للقوى العظمى في بلد معين). ولكن هناك أسئلة تظلّ بلا إجابة: لماذا لم يحاول زعماء، مثل رولينغز في غانا، ومكابا في تنزانيا، وتشيسانو في موزمبيق تعديل الدستور للبقاء في السلطة، في حين فعل آخرون ذلك، مثل لانسانا كونتي في غينيا، والكاميروني بول بيا، أو الأوغندي يوري موسيفيني؟
ربما كان من الممكن العثور على الجواب في التحليل النفسي لشخصية القادة المعنيين، فإن تجربة السلطة تؤدّي لدى رؤساء دول كثيرين إلى تغيّرات نفسية تُفضي إلى أوهام العظمة والمواقف النرجسية وغير المسؤولة. وتشكّل هذه الأوهام متلازمة من الغطرسة السياسية، الأمر الذي يجعل هؤلاء القادة يعتقدون أنهم يعرفون دائماً أفضل من غيرهم، ويحكمون بأن قواعد الأخلاق لا تنطبق عليهم، وهذا موضوع يحتاج إلى تعميق البحث حوله.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.