تمام وإسماعيل... الحياة والحب وفلسطين

17 مارس 2017

تمام بريشة إسماعيل في 1956

+ الخط -
هذا كتابٌ تزعل عندما تنتهي من قراءته. يجعلك بعد مطالعته في مزاجٍ آخر، لأنك سافرت فيه إلى عالمٍ متنوعٍ من المشاعر والأخيلة والأمكنة والأزمنة، ويبقى كثيرٌ منها فيك. وكُتب السير الشخصية إما أن تتوفر على المؤانسة والإمتاع، وتطلّ على فضاءاتٍ رحبة، وعلى تجارب وأفكار وحياة شاسعة، أو أن لا يزعم كاتبوها أنهم صنعوا شيئا. ولمّا قال قدامى ومحدثون إن السيرة من فنون الكتابة، فإنهم أضافوا، إلى ذلك الزّعل، شرط إجادة السرد وتلقائيته، والحكي بجاذبية وحيويّة، عاليتين إن أمكن. والفلسطينية، تمام الأكحل (82 عاما)، فنانة تشتغل، منذ أزيد من نصف قرن، على اللون، وعلى إمتاع العين، فتعرف بالضرورة شروط الجمال في المنجز الفني، أكان رواية حكاية، أو إيحاءً بها بالريشة في لوحة. لقد نجحت، في كتابها البديع "اليد ترى والقلب يرسم.. سيرة تمام الأكحل وإسماعيل شمّوط" (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2016)، في تقديم سيرةٍ شخصيةٍ لامرأة فلسطينية، كافحت، وتعبت، واجتهدت، وأنجزت، سيرةٍ متصلةٍ بالعام الفلسطيني، منذ ما قبل نكبة 1948. ونجحت تمام أيضا، في الكتاب، في تظهير الجوّاني والخارجي، الشعوري والمجرّد، بصدقٍ وبعفويةٍ غزيريْن. تقرأ فيه عن الطفلة ثم الفتاة، في يافا وفي بيروت، ثم طالبة الفنون في القاهرة، ثم المُحبّة، ثم الزوجة والأم، وفي أثناء هذا كله، الفلسطينية دائما، لا لشيءٍ إلا لأن الطرد من البيت هناك، والتهجير والفقر واللجوء، ثم الارتحال مع الفقر أيضا، ثم ما توالى من وقائع النجاح والتفوّق والحياة الكريمة في سيرة تمام الأكحل، ظلت فلسطين في كل تفاصيلها. 

كان إلياس خوري، في تقديمه الكتاب، حصيفا في تأشيره إلى مستويين لقراءة الكتاب، شهادة امرأة من أجل تحرّرها الشخصي، وكفاحها وحيدة، في مواجهة الفقر والتشرّد والضياع، وحكاية جيلٍ رسم أبجدية فلسطين الجديدة، وضم فنانين وشعراء وصحافيين. تدهشك تلك الروح الخلاقة لدى والد تمام وأخيها، عندما ينحازان إلى حقها في التعليم، وفي مشاكسة الحياة، وفي تطوير مواهبها الأولى، وفي امتلاك إرادتها، فساندا سفرها لتتعلم في القاهرة، في ظروف عيشٍ صعبة، في 1953، مع إمساكٍ بالمعادلة التي تحافظ على الأصول العائلية والمجتمعية. التفاصيل شائقةٌ جدا في مسار تمام الأكحل في شبابها الأول، في مدرسة المقاصد الإسلامية في بيروت، ثم إقامتها طالبةً ورسّامةً في القاهرة، تكتب عن هذا كله بحرصٍ على تظهير روحٍ كفاحية مبكرة في التغلب على الصعوبات والمفاجآت، ثم ينعطف السرد إلى علاقة الحب مع إسماعيل شمّوط، بعد تعاونهما في إعداد معرضٍ تشكيليٍّ كبير، افتتحه في 1954 الرئيس جمال عبد الناصر، وكان من حضوره رئيس اتحاد طلبة فلسطين، ياسر عرفات، فتكون انتقالةٌ إلى طور آخر، شائقٍ جدا هذه المرة، لأن تفصيلا دراميا سينشأ في القصة كلها، هو خطبة الحبيبين، تمام وإسماعيل، في بيروت، ثم فسخها، وافتراقهما، نحو ثلاث سنوات، قبل أن يعود الوصال، ثم ينعقد الزواج في 1959.
تمتدّ رحلة الحياة زوجةً وأماً، وقبل ذلك وفي أثنائه، فنانةً وناشطة، مع شريك العمر، إسماعيل شمّوط الذي لا أظن أن ناقدا تشكيليا زميلا تزيّد في وصفه واحدا من صنّاع "المعجزة الفلسطينية"، تمتدّ على ثلثي الكتاب تقريبا، لتنتهي صفحاتُه، مع وفاة شمّوط في صيف العام 2006، في مستشفىً في ألمانيا، فيرثيه صديقه محمود درويش في كلمةٍ كتب فيها ".. يدُه هي التي ترى، وقلبُه هو الذي يرسم"، ليُستوحى من هذه العبارة عنوان هذه السيرة، المشتركة وغير المشتركة في آن. وأحسب أن من المهم أن يُقرأ الكتاب باعتباره عن حياة تمام الأكحل، وإنْ يحوز شمّوط في هذه الحياة (كما في السيرة في الكتاب طبعا) حصةً كبرى، وهو صاحب حصةٍ ثقيلة في الإبداع الفلسطيني، الفني والثقافي العام، طوال أكثر من نصف قرن، ولا شطط في الوصف الذي طالما خُلع عليه، واحدا من أيقونات فلسطين ورموزها.
ليست هذه الكلمات هنا لاستعراض كتاب تمام الأكحل، ولا لإيجاز شيءٍ منه، وإنما لشكرها لأنها بادرت إلى كتابته، فهو مساهمةٌ منها في مدوّنة فلسطين، حياةً ووجودا، وطنا وذاكرة، شعبا وأفراداً، فنا وإبداعا. فيه دروسٌ ثمينة، عظيمة الإفادة، وإضاءةٌ على إيقاع أزمنةٍ بعيدة، فلسطينية أولا، ومصرية خصوصا، ولبنانية بالضرورة، وعربيةٍ عامة. أسىً شفيفٌ يغشاك وأنت تقرأ عن ذلك كله، ثم ينتهي الكتاب، فتزعل.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.