تلك القسوة والبهجة في "تمبكتو"

13 مارس 2015

مشهد في فيلم "تيمبكتو" (إنتاج 2014)

+ الخط -
يسّرت مؤسسة الدوحة للأفلام في عروض "قمرة" لجمهور السينما في قطر فرصةً طيبةً لمشاهدة فيلم الموريتاني العالمي، عبد الرحمن سيساكو، "تمبكتو"، (إنتاج 2014)، بعد أن طاف في مهرجانات كبرى، (كان وأبوظبي وغيرهما)، وفاز بجوائز مهمة، واقترب من الفوز بالأوسكار لأفضل فيلم أجنبي. وإذا كان موضوعه عن قسوة المجموعات الإسلامية الجهادية وفظاظتها وإرهابها هو ما استأثر بالانتباه الأكبر فيه، فإن التعبير السينمائي في هذا الفيلم، وما نطقت به الصورة الحارة والموحية فيه، يبقى الأدعى إلى الاحتفاء، مضافاً إليه أن تلك الشناعة في ممارسات أولئك، من سارقي الإسلام، بحسب وصفٍ في محله لهم، يتبنّاه المخرج، ليست نمطية ولا مطلقة، فالإنسان، مهما بلغت الشرور فيه، والاعوجاج في مسلكه وقناعاته، فإنك قد تُصادف فيه مقادير من آدميته، ومن انتسابه إلى البشر. وإذ نجح الفيلم في تظهير دواخل شخصياته، واضطرابهم الجواني، وأحاسيسهم المكتومة، فإنه، أيضاً، يذهب بمشاهديه إلى عنتٍ كثير يغالبه شركاء في المجتمع الإنساني، في صحارى إفريقيا وبين رمالها. وكذا إلى أفراحهم البسيطة، وهم يتعايشون مع الشقاء، وأيضاً، وهم يقاومون التجبر والتسلط والقهر بالسخرية والبهجة بالحياة، وبالحب.
معلوم أن مسلحين من "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، ينتسبون إلى ما تسمى "جماعة أنصار الدين"، سيطروا على مناطق في شمال مالي، قبل عامين، وأن جهداً عسكرياً، دولياً وإفريقياً، وفرنسياً بشكل خاص، أزاحهم منها. في تلك الأثناء، احتل أولئك أراضيَ في منطقة تمبكتو في هذا البلد، وفرضوا سلطتهم على المجتمع الفقير فيها. ينشغل فيلم عبد الرحمن سيساكو بناس قريةٍ هناك، وبخوف كثير بسطه هؤلاء في المكان، وبممنوعات ومحظورات فرضوها إبّان حكمهم المنكوبين بهم. جالت كاميرات الفيلم في زقاق القرية، ودخلت جامعها، وبيوتها التي من طين غالباً، وجالت، أيضاً، في عيون الناس، الصبية والصبايا، والكبار والصغار. ومن مباهج الفيلم غير القليلة أن رمال الصحراء نطقت فيه، وأن جمال الطبيعة البكر، حيث الوادي والنهر والرمل والشجر وبساطة الحياة، وحيث الرعي وصيد السمك، يوظّف في سينما سيساكو ليكون ضداً للتسلط القبيح الذي مارسه أولئك الحاكمون باسم إسلامهم في القرية.
دلَّ تعبير بطل الفيلم، الموريتاني إبراهيم أحمد، عن مشاعر الحنان الآسرة فيه تجاه ابنته الصغيرة وزوجته، على قدرته المكينة ممثلاً مهماً، في دور راعٍ يقيم معهما في خيمة عند طرف القرية، وكذا الفنانة تولو كيكي في دور زوجته. ولا تغفل براعة الممثل الذي أدى دور جهادي جزائري، قلِقٍ في دواخله، يدخن سراً، فيما التدخين ممنوع بحكم من ينتسب إليهم، وتغشاه حالة حب مكتومة. وثمّة ذلك القاضي في محكمة المجاهدين هؤلاء، وغيرهم من طاقم الفيلم الذي أظهر حالات الرفض والمواجهة، الجسورة والفدائية، من نسوةٍ خصوصاً في القرية، ضد أوامر المحتلين الجهاديين. وكانت جرعة السخرية عالية، ولافتة، في لعب الصبية كرة القدم من دون كرة، رداً على الحظر المقيت للعبة الشعبية. كما مقاومة منع الموسيقى والغناء، في بيت يفرح من فيه بشجىً إفريقي وإيقاع صحراوي. وكم كانت الرسالة بليغة عندما بكت صبيّةٌ في أثناء جلدها قليلاً، ثم (أجهشت؟) بالغناء، وهي التي عوقبت بالجلد لأنها كانت في لحظة بهجةٍ مع الموسيقى والغناء.
قيل عن "تمبكتو" (اسمه الآخر "حزن الطيور") إنه إدانة قوية للأصولية والرجعية الدينية، واعتبره رئيس وزراء فرنسا، مانويل فالس، فيلماً يقاوم الوحشية. ويصح هذا عنه، كما يصح القول إنه احتفاء بالمقاومة السلمية الشجاعة والجريئة ضد التطرف الأصولي. ولكن، من الجوهري أن يتوازى هذا الثناء مع التأكيد على حذاقةٍ إخراجيةٍ في إنجاز فيلم سينما جميل، بإيقاعٍ حافظ على جاذبيته، حكايةً وصورة، عن ألمٍ إنساني، في صحراءَ إفريقية بعيدة، ثمّة ما يشبهه في غير أرض عربية قريبة.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.