تلك الأيام
رغم أنّ عائلتي عاشت في دمشق منذ زمن طويل، لكنّني ابنة تلك القرية الجبلية التي كنّا نذهب إليها في العطلات المدرسية كلّها، عطلة نصف السنة والعطلة الصيفية وعطلات الأعياد. لم يكن أصدقاء طفولتي الحقيقيون في دمشق، بل في الملاجة، قريتي، هم أبناء عمومتي وأخوالي من الدرجة القريبة والبعيدة، وفي قريتي، كمعظم الريف السوري، لا يوجد هذا الفصل بين الصبيان والبنات، كنّا معاً دائماً، نقضي النهار من أوّله حتّى أوّل الليل، وربّما حتّى منتصفه، إذ كنّا ننام جميعاً في الغرفة الكبيرة التي تجمعنا. كانت بيوت القرية وقتها غرفاً طينية كبيرة منفصلة مسقوفة بالخشب، ومفروشة بمدّات أرضية تصلح للجلوس وللنوم معاً. كانت في بعض الغرف أسرّة حديد عالية، شرط النوم فيها هو الاستحمام بعد يوم طويل من اللعب، وارتداء ملابسَ نومٍ نظيفةٍ، والخلود مُبكّراً إلى النوم. ورغم إغراء النوم على السرير بعد الطاقة الهائلة المبذولة في اللعب، إلّا أنّ إغواء الألعاب الداخلية المسائية كان أقوى، كلعبة الورق (الكوتشينة) أو لعبة المنقلة، وهي بين طاولة الزهر والضاما، أو لعبة الحروفية، وهي لعبة تستفزّ الذاكرة فيقول أحدنا بيتاً من الشعر أو أغنيةً وعلى الآخرين قول بيت آخر يبدأ بالحرف الذي انتهى فيه بيت الشعر السابق، أو حتّى التجمّع ليلاً لقراءة واحدةٍ من قصص حكايات ألف ليلة وليلة المثيرة أو ما يشبهها من روايات قرأها أحدنا واكتشف فيها فصلاً يصلح لخيالات أوائل المراهقة عن الجسد وغواياته.
لم يكن التيّار الكهربائي قد وصل إلى قريتنا بعد. حين كنّا نجتمع مساءً كنّا نُوقد الفتيلَ في القنديل الكازي الصغير، أو كنّا نُشعل شموعاً بدائية كان أهل قريتي يشترونها من بائع جوّال نطلق عليه اسم (الشيني)، وكانت العملة التي يأخذها هي البيض الطازج ثمن بضاعته، فكانت كلّ ما يمكن أن يحتاجه أهل القرية في ذلك الوقت ممّا لم يكن متوفّراً لديهم. احترنا لاحقاً من أين أتى هذا الاسم، هل هو نسبة إلى قرية (شين) الواقعة بين طرطوس وحمص، أم نسبة إلى الصين التي كانت بضاعة البائع الجوال كلها منها؟... لم نشعر يوماً بأنّنا نحتاج للكهرباء، أقصد أنا وأخي، القادمَين من العاصمة، حيث لا تحتاج سوى ضغط زرّ صغير ليشعّ النور في الغرفة. بل في الحقيقة كنّا سعداءَ بهذا العتم الجميل، الذي يُبعد عنّا سطوة الكبار المجتمعين في بيوت أخرى يستمعون إلى أغانٍ تصدر من جهاز راديو صغير يعمل بالبطارية، أو يحيون واحدةً من سهراتهم الدائمة، حيث يغنّون أغانيَ كتبوها ولحّنوها بأنفسهم، أصبحت لاحقاً من التراث الجميل لقريتنا الصغيرة، التي خرج منها كتّاب وفنّانون ومُغنّون سوريون عديدون.
أفكر اليوم بذلك كلّه، بتلك المتعة كلّها، القائمة على بذل المجهود لابتكار ما يسلّينا ويدهشنا ويجعلنا سعداءَ ومنطلقين ونشيطين، لم يكن هنالك شيء يمكنه أن يشغلنا عن التجمّع والتشارك في اختراع أنواعٍ مدهشةٍ من الألعاب، كلّ شيء كان مشتركاً ومبنياً على التواصل النفسي والمادّي لأطفال أو مراهقين يبحثون عن السعادة والمتعة، فيتشاركون ابتكارها واكتشافها من دون أن يدركوا كم سيكون لذلك أثره العميق لاحقاً. أفكّر بذلك كلّه وأنا أرى العزلة التي يعيشها الأطفال في وقتنا الحالي، فهم يعيشون مع شاشات صغيرة وذكاء صناعي يقدّم لهم تسليةً باهتةً، تزيد في عزلتهم، وفي احتمال دخولهم موجاتَ اكتئابٍ واضطراباتٍ نفسية لاحقاً، وتؤهّلهم لدخول دائرة الكسل والسمنة، وفقدان مهارات التواصل الاجتماعي، إضافة إلى أنّها تنمّي لديهم نوازعَ عنفيةً أو تُؤثّر في خياراتهم الجنسية، فمهما كنّا غير مؤمنين بنظريات المؤامرة، إلّا أنّه لا يمكننا تجاهل أنّ لمموّلي ومُخترعي الذكاء الصناعي أجندات أو ميولاً سوف يقومون بترويجها لمستهلكي منتجهم.
غيّرت الحداثة التقنية المهولة في منظومة العقل البشري وفي الكيمياء الخاصّة به، عوّدته الكسل والتلقّي والاستهلاك، بدل الابتكار والنشاط، وبذل الجهد للحصول على المتعة العقلية أو النفسية. سابقاً كانوا يدفعون للشيني بيضاً ثمن بضاعته، البشر اليوم يدفعون سلامهم النفسي في مقابل بضاعة شينيي العصر الحديث.