"تغريبة القافر" تعيد الرواية العُمانية إلى ساحة "بوكر"
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
حقّقت رواية العُمانية بشرى خلفان "دلشاد" مقروئية واسعة وطبعات متوالية، ليس فقط بسبب وصولها إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) في دورة العام الماضي (2022)، ثم حصولها على جائزة كتارا للرواية العربية (في قطر)، وإنما أيضا لأن التفاعل معها كان سابقا للجائزتين، وذلك بسبب موضوعها وأسلوبها الجاذب، وسبق لكاتب هذه السطور أن تناولها في هذا الركن في "العربي الجديد" قبلهما.
صعدت أخيرا إلى القائمة القصيرة ضمن نسخة البوكر الحالية (2023) رواية العُماني زهران القاسمي "تغريبة القافر" (دار رشم للنشر والتوزيع، تونس، مسكلياني للنشر والتوزيع، الشارقة، 2022)، وهي رابع رواياته التي تمتاز باشتغالها على الطبيعة والبيئة العُمانية، وكأنها لسان حال هذه الطبيعة الصامتة من جبال ومياه ودوابّ، توجَد بين البشر، وتساهم في تحريك الحياة في القرى العُمانية. كانت روايته الثانية "القنّاص" عن اصطياد الوعل البرّي في جبال عُمان. وانطلقت الثالثة "جوع العسل" من شخصية مربّي نحل وما يحيط بحياته من ظروف والتباسات، ونجد أمرا شبيها كذلك في بدايته الروائية الأولى "الشوع"، وهو نوع من نباتات برّية تحمل مسمّىً عُمانيا.
تردني اتصالاتٌ من أصدقاء عرب يشيدون فيها برواية "تغريبة القافر". وسواءً فازت بجائزة بوكر التي سيُعلن عنها في أبوظبي في مايو/ أيار المقبل، أو اكتفت بالصعود إلى القائمة القصيرة، فإنها حقّقت نسبة مقروئية مهمة تجاوزت المحيط العُماني إلى محيطها العربي. والملاحظ في الرواية أنها تستخدم في حواراتها اللهجة العُمانية، وكنت أظن أن ذلك يمكن أن يحول دون فهم القرّاء العرب جانبا مهمّا من جوّانيات الشخصيات ولسانها التي اعتادت أن تعبر به في مألوف حياتها اليومية، فالحوارات في الرواية عامة، تقوم بالدور التعبيري البسيط عن الحاجات وبثّ اللواعج، والحوار عادة هو المعبّر المباشر عمّا تشعر به الشخصيات، سواء بلسانها المحلي أو بلسان عربي فصيح. ولكن يبدو أن "تغريبة القافر" كانت موفّقة في ترويض السياق العام للجمل، لإفهام القارئ العربي معاني الكلمات المحلية. ولم يكن زهران القاسمي المبادر الوحيد في هذا الجانب، سنجد كذلك رواياتٍ عُمانية كثيرة تستخدم اللهجة المحلية في الحوارات، مثل "دلشاد" لبشرى خلفان و"سيّدات القمر" لجوخه الحارثي (فازت بجائزة البوكر العالمية)، وكذلك روايات محمد اليحيائي ويونس الأخزمي وشريفة التوبي وهدى حمد وغيرها من روايات وقصص يتعذّر حصرها، تعبّر شخصياتها، في أحيان كثيرة، بالدارجة المحلية. ولا بد هنا أن لا نستهين بالدارجة ولا نتهمها بأنها تروّج أدبا "حلمنتيشيا"، كما اعتاد الكتّاب في عصر النهضة أن يسمّوا كل كتابٍ تمتزج فيه المحلية بالفصحى. وتطلق هذه الصفة التخفيفية الساخرة عادة على الشعر الشعبي والمجلات الساخرة التي كانت تصدر مع الصور في ذلك الوقت.
استطاع زهران القاسمي من خلال تتبع سيرة القافر (يقتفي أثر الماء) الذي يمتلك قدرات خاصة، وفي الآن نفسه متوحّد بعالمه، أن يعرّفنا، في طريقه السردي المتدفق، على طرق شقّ الأفلاج العُمانية وتلك المعاناة التي كان يعانيها القرويون مع قلق الجفاف والتعلّق بالأمل في اكتشاف الآثار المطمورة للماء. وقد جعل من روايته مناسبةً للتعريف كذلك بمفردات قديمة "شبه مهجورة" في اللهجة العُمانية، وأسماء الناس وأحوال معيشتهم في زمن الرواية. لذلك جاءت اللهجة العُمانية القروية في هذه الرواية منسجمةً مع أجواء عالمها. وحتى لو قدّم الحوار بالعربية الفصحى (عظمة لغتنا العربية الفصحى في أنها عالية ومثقفة) لن يتغيّر الأمر كثيرا، ولكن القصد هنا أن يُضفي الكاتب أكبر قدرٍ من الانسجام بين التعبير والتلقّي. لستُ متعصّبا للحوار بالفصحى أو باللهجة العامية الدارجة، ولكن للكاتب ميزانه الخاص في التعامل مع الحوار. وكان نجيب محفوظ ويوسف إدريس وغيرهما أذكياء في التعامل مع الحوار، فهم حتى وإن كتبوه بالفصحى لا تشعر بأي تفاصُح فيه، وذلك لأن الفيض الشعبي، وهذا من قدرات اللغة العربية الفريدة، يمكنه أن يجعل الفصيح شعبيا، فقط لو أحسن الكاتب توظيفه واستخدامه.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية