تصعيد إيراني غير مضمون

21 مارس 2022

عامل يزيل أنقاضا في استوديو قناة كردستان 24 في أربيل بعد هجوم إيراني (13/3/2022/فرانس برس)

+ الخط -

أعلن الحرس الثوري الإيراني مسؤوليته عن القصف الذي طاول مناطق في مدينة أربيل العراقية، وهو تصعيد كبير في التوجهات الإيرانية المبنية على حالة الاضطراب العالمي الناتجة عن غزو روسيا أوكرانيا، والمنسجمة مع جملة من التصريحات والقرارات الإيرانية المعلنة أخيراً، كما في إعلان طهران عن تعليق الحوار مع السعودية، وإعلان وزارة الاستخبارات الإيرانية عن تفكيك "أكبر شبكة تجسّس عملت لصالح الكيان الصهيوني" في محافظة أذربيجان الغربية، فضلاً عن التطورات، أو ربما الانتكاسات التي طاولت مسار مفاوضات فيينا نتيجة الشروط الروسية الجديدة التي رفضتها إيران بشكل غير مباشر، ثم عادت إلى قبولها، أو على الأقل تفهمها. وعليه، قد يعكس التصعيد العسكري الإيراني أخيراً توجهات إيرانية جديدة، تعبر عن فهم النظام الإيراني التطورات الدولية وانعكاساتها على المنطقة الإقليمية، وبالتالي على توازنات القوة في الإقليم.
إذاً، لم تكتفِ طهران بإطلاق صواريخها من داخل الأراضي الإيرانية، بل أصدرت إعلاناً رسمياً بتبنّيها العملية، على الرغم من اعتمادها في المرحلة السابقة على تحاشي أيّ تدخلٍ عسكري إيراني مباشر، معتمدة على المليشيات التي تغذّيها وترعاها وتتحكّم بها داخل العراق وخارجه، كما حزب الله وجماعة الحوثي والحشد الشعبي. طبعاً، لا يملك الحشد الشعبي القدرات العسكرية الإيرانية نفسها، لكنّه قادرٌ على تحقيق الأهداف العسكرية والسياسية، وربما الأمنية (في حال صحة الادعاءات الإيرانية) من العملية، وبتكلفةٍ أقل، وفق القواعد التي حكمت المنطقة الإقليمية في المرحلة السابقة. وعليه، يصبح إصرار إيران على تنفيذ الاعتداء عبر الحرس الثوري الإيراني، المصنف ضمن قوائم الإرهاب الأميركية، انعكاساً لحاجة إيران، أو ربما روسيا، إلى تصعيد عسكري في الإقليم، أو ربما يعبر عن قراءة إيرانية أنّ اللحظة الراهنة تسمح لإيران بمزيد من التوغل والسيطرة والتحكّم في الإقليم، فللتطورات الدولية المتلاحقة بعد غزو روسيا أوكرانيا سمات ثلاث رئيسية، أولها استراتيجية أميركية غير عسكرية، فمن الواضح، وفق التطورات والتصريحات الأميركية، حرصها على تجنّب التدخلات العسكرية المباشرة في أيّ نزاع وفي أي منطقة؛ ربما باستثناء منطقة المحيط الهادئ والصين تحديدا، وهو ما يؤدّي إلى انكفاء أميركي عن التدخل في مناطق عديدة، وفي قضايا هامشية أو طرفية، وفق الأولويات الأميركية، ومنها منطقتنا الإقليمية. وعليه، تراهن إيران على محدودية الرد الأميركي، مهما صعّدت من اعتداءاتها في الإقليم، وهو ما قد يعبّر عنه بيان تبني الحرس الثوري الاعتداء أخيراً على أربيل. كما توضح سمة المرحلة الثانية إصراراً أميركياً وأوروبياً على حصار روسيا الاتحادية، وهو ما يتطلب تحشيداً دولياً كبيراً وشاملاً، من أجل خنق روسيا اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وبغرض استبدال المساهمات الروسية الاقتصادية ببدائل أخرى، كما في استبدال الغاز والنفط الروسيين، وهو ما يمنح إيران قوة مضافة، يمكن لها استغلالها على الصعيد الدولي. ثم نجد السمة الثالثة التي يمكن اعتبارها نتيجةً طبيعيةً للسمتين السابقتين المعبرتين عن مرحلة المساومات الكبرى، فالصراع بين المعسكرين، الغربي والشرقي، مفتوح على مصراعيه زمنياً وعملياً. وعليه، قد يطول كثيراً، كما قد يأخذ أبعاداً أكثر عدوانية وشراسة اقتصادياً، وبدرجة أقل عسكرياً، وهو ما يمنح الدول الطرفية سماتٍ إضافية لم تعهدها سابقاً، بحكم تنافس المعسكريْن على استقطابها وحاجتهما اللوجستية لها، الأمر الذي يمكّن القوى الطرفية من مساومة كلا المعسكرين على ملفات إقليمية، وربما دولية، عديدة.

لا يمكن استبعاد الضغط على الحكومة العراقية وحكومة أربيل من أجل محاصرة المليشيات الإيرانية وضبط الدور الإيراني في المرحلة المقبلة

من زاوية رؤية ثانية، تبدو الاستراتيجية الإيرانية بمثابة رهان خطير تتساوى فرص نجاحه مع فشله، كونها لم تأخذ بالاعتبار جملة من القضايا: أولها الاستعداد الأميركي السابق، فقد حرصت الولايات المتحدة على دفع حلفائها الإقليميين للعب دور حاسم في ضبط المنطقة الإقليمية بدلاً عنها، وهو ما تجلّى في التحالف الإماراتي - الصهيوني والتقارب التركي - المصري والسعودي والإماراتي، بل في التقارب التركي - الصهيوني. وعليه، قد تجبر إيران على مجابهة تحالف إقليمي عريض أو ضيق، إن بالغت في توغلاتها، لكنّ كاتب المقال يستبعد ذلك الآن، بحكم انعكاسات الصراع الإقليمي المباشر على أسعار المشتقات النفطية ووفرتها عالمياً، وهو ما يصبّ في المصلحة الروسية إنْ حدث. كما عملت أميركا على دعم رئيس الوزراء العراقي الراهن؛ مصطفى الكاظمي؛ من أجل كبح الجماح الإيراني داخل العراق، مستغلةً أجواء الاضطراب الشعبية والاحتقان الشعبي منها، وهو ما عكسته أيضاً نتائج الانتخابات أخيراً. وعليه، لا يمكن استبعاد الضغط على الحكومة العراقية وحكومة أربيل من أجل محاصرة المليشيات الإيرانية وضبط الدور الإيراني في المرحلة المقبلة.
كما لم تراعِ الاستراتيجية الإيرانية وجود قوى طرفية أخرى، يتنافس كلا المعسكرين على كسب ودّها. وهنا الحديث عن جملة من الدول الإقليمية، كتركيا والدول الخليجية قاطبة، خصوصاً السعودية والإمارات وقطر. وعليه، لا تملك إيران وحدها ورقة المساومة، بل تملكها كلّ هذه الدول، وهي تدرك امتلاكها لها تماماً كما تدرك إيران ذلك، وهو ما تجلّى في إعلان قطر حليفاً رئيسياً من خارج حلف الناتو، وفي رفض الرياض وأبوظبي مكالمتين من الرئيس الأميركي بايدن، كما نشر قبل أيام، وفي ضغط تركيا على الولايات المتحدة من أجل إلغاء العقوبات المطبّقة في مجال الصناعات الدفاعية التركية، بما يشمل الموافقة على شراء تركيا 40 طائرة جديدة، وتحديث أسطولها من طائرات "أف 16".

قد نكون أمام تصعيد إيراني محسوب ومتفق عليه مع روسيا، بهدف إثارة الاضطرابات في المنطقة

من ذلك كله، يبدو التصعيد الإيراني، أخيراً، رهاناً خطيراً قد يطيح مصالح طهران الخارجية، وربما يهدّد استقرار نظامها الداخلي، كما قد يمثل انتصاراً لإيران وتثبيتاً لأقدامها في الإقليم، وربما على المستوى العالمي. كما لا يمكن استبعاد احتمال اصطفاف إيران مع روسيا منذ الآن. وعليه، قد نكون أمام تصعيد إيراني محسوب ومتفق عليه مع روسيا، بهدف إثارة الاضطرابات في المنطقة، وإيجاد ساحة صراع إقليمي مفتوحة ومتأجّجة، تطيح استقرار المنطقة وتهدّد قدرة الدول الإقليمية على رفد دول العالم بالمشتقات النفطية، وهو ما قد يضرب الاقتصادات العالمية، ويهدّد استقرارها، ويرفع من مستويات التضخم المرتفعة أصلاً، ويهدّد استقرار دول المعسكر الغربي داخلياً.
في النهاية، سوف تكشف الأيام المقبلة عن دوافع الاستراتيجية الإيرانية الجديدة، إن كانت محاولة لتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية عبر مسار يزاوج بين الضغط الميداني والمساومة السياسية، أم هي جزء من خطة روسية - إيرانية، وربما صينية، تهدف إلى محاصرة المعسكر الغربي وكسر هيمنته. في كلا الحالتين، نحن أمام تصعيد جديد قد يدفع المنطقة إلى سلسلة لامتناهية من الرد والرد المضادّ، اللذيْن لا يصبّان في مصلحة أي من شعوب المنطقة، بمن فيها الشعب الإيراني.