تأديب الزوجة والمنظومة السائدة
أثار رأي شيخ الأزهر، أحمد الطيب، في مصر، أخيرا، عن حكم ضرب الزوجة في القرآن الكريم جدلا كثيرا، حينما اعتبر أن المقصود من قوله تعالى: "واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا"، هو ليس الضرب المبرح، بل الخفيف والرمزي الذي يهدف إلى تأديب المرأة، ويصدّها عن هدم الأسرة، مسترجعا رأيا مشابها لعباس العقاد، قاله في بدايات القرن الماضي، اتفق فيه مع المعترضين إذا أثبتوا أنه توجد بين النساء امرأة واحدة لا تستحق هذا النوع التأديبي من العقاب. وكانت لافتةً في الجدل محاولات بعض دعاة الإصلاح الديني الاجتهاد في تفسير الآية، واعتبار مفردة الضرب هنا "ضرب ستار بين الرجل وزوجته نوعا من العقاب"، وإكمالا لقوله تعالى "واهجروهن في المضاجع"، غير أن هذا الاجتهاد في التفسير ليس سوى ليّ لعنق الآية وأخذها إلى مكان آخر، فالنص واضح وصريح، وما حاوله شيخ الأزهر أن لا يصبح ذريعة للعنف الأسري المتزايد في مجتمعاتنا العربية.
ولكن ضرب الزوجة ومعاقبتها لتتأدب وتعود إلى طاعة زوجها أمر لا يمكن لأكبر شخصية دينية إسلامية، كشيخ الأزهر، نسفه أو تحويره، فذلك سوف يستدعي نسف قوامة الرجل على المرأة المذكورة في النص الديني أيضا، والتي تأسّست عليها منظومة اجتماعية كاملة منذ أكثر من ألف وخمسمائة عام، لا تزال تدافع عن وجودها أمام محاولات خلخلتها وكسرها من الأجيال التي ترى فيها رجعية اجتماعية، لم تعد تتناسب مع ما وصلت إليه البشرية من تعزيز لحقوق المرأة والطفل والحريات الجندرية والحق في العبور الجنسي والتحول، وإلى ما نراه اليوم في العالم من الليبرالية الحديثة على المستويات، الاجتماعية والتقنية والاقتصادية، بكل ما في ذلك من إيجابيات وسلبيات، لن تتمكّن مجتمعاتنا من الثبات أمامها طويلا، خصوصا وأن الخطوات التي يخطوها التقدّم العلمي والتقني بالغة السرعة والانتشار، ولا مناص من التحاق الأجيال العربية والإسلامية الجديدة بها، وإلا أصبحت خارج دورة الإنتاج والتطور، وهو آخر ما ترغب به هذه الأجيال التي لن تتأخر كثيرا في نسف منظومةٍ تحاول دفعها إلى الخلف، بينما تمشي البشرية سريعا نحو الأمام.
والحال أن العنف الأسري في المجتمع العربي يبدو كما لو أنه في أقصى حالاته هذه الأيام، إذ لا يمر يوم من دون خبر عن فتاة أو امرأة قتلت أو ذبحت أو رجمت أو انتحرت، وكلها جرائم مرتكبة بدواعي "الشرف"، ومرتكبو هذه الجرائم أزواج تلك النساء أو آباؤهن أو إخوتهن. وربما تشاركهم الأمهات أحيانا، فيحدث أن نقرأ أن زغاريد أطلقتها العائلة حين يذبح شابٌ شقيقته، أو والدٌ ابنته، غسلاً لعار جلبته على العائلة. ولسوء الحظ، ما تُعرَف بجريمة الشرف في بلادنا لها أحكام قضائية مخففة، عدة سنوات قليلة في السجن، ويخرج المجرم معزّزا ومكرما، وغالبا ما تدفع العائلات بأبنائها القصّر لارتكاب جرائم الشرف، وهنا سوف يقضي القاتل عقوبة لا تتجاوز الأشهر، ويخرج ليتابع حياته بوصفه بطلا اجتماعيا أراق الدم على جوانب الشرف درءا للأذى.
جريمة الشرف وعقوبتها هما نتاج قوامة الرجل على المرأة، نتاج المنظومة الاجتماعية، نتاج الهيمنة الذكورية التي تتناسب مع بنية الأنظمة العربية الحاكمة، أنظمة شمولية تعطي للزعيم سلطة مطلقة، أنظمة استبدادية بنت هرم وجودها الاجتماعي وشرعية قوانينها ودساتيرها بالاستناد إلى النص الديني، وبالتحالف مع المؤسسة الدينية التي تدافع بشراسة عن وجود تلك الأنظمة، ذلك أن أي تغيير في بنية الشمولية سوف يطاول مكاسبها الاجتماعية والاقتصادية، وهو أكثر ما تخشاه المؤسسات الدينية. من يتذكّر ما فعلته الكنيسة دفاعا عن سلطتها قبل عصر التنوير الأوروبي يفهم الأسس التي يقوم عليها التحالف الوثيق بين المؤسستين، السياسية الأمنية والدينية، في بلادنا. أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا، ما قاله شيخ الأزهر عن ضرب المرأة تفسير متسامح كثيرا بالقياس لشخصية بحجمه ومكانته. وطالما أن القوانين الناظمة للمجتمع شرعية لا مدنية، فسوف يستمر العنف الأسري وربما سيزداد بسبب الأزمات المعيشية وأوضاع مجتمعاتنا المزرية، وسيبقى مرتكبوه محميين دائما ما لم يحدُث تغيير جذري ينسف المنظومة بأكملها.