بيلاطس حين يغسل يديه

30 أكتوبر 2023
+ الخط -

حين أُسأل في هذه الأيام: كيف الحال؟ أجيب دون تفكير: "إيدي مربّطة". هكذا نقولها بالدارجة للتعبير عن حالة العجز المطلق. وهذا هو واقع الحال لنا جميعاً، نتسمّر ساعات طويلة أمام الشاشات، نرصد من غرف معيشتنا البيوت تنهار فوق رؤوس أهلها، والأرواح الغضّة تُغتال بالجملة في مجازر متتالية. نعي عجزنا وقهرنا وحزننا، يستولي علينا إحساس ثقيل بالذنب إزاء هذا الهوْل الذي تعيشه غزّة على مدار الساعة. المصيبة أننا، رغم الدم الغالي المهدور في الجوار على مرأى العالم بأسره، نواصل الحياة، وإن ليس كالمعتاد. وهنا بالضبط  يكمن العذاب نفسه، معاناة كبرى وإحساسٌ مرير بالخيبة والخذلان. نختنق بالعَبرات وتنحبس المفردات في الصدور، وتنهك القلوب بالحُزن ونحن نشاهد ما يجري، وائل الدحدوح وهو يعاتِب ابنه الذبيح، لأنه لم يكبُر ليصبح صحافياً كما حلم، ويردد من عمق وجعه: "معلششش". وتلك الأم الثكلى التي تبحَث عن يوسفها الحلو الصغير "الأبيضاني أبو شعر كيرلي" الذي التهمه الذئب، من دون حتّى أن يعيدوا لها قميصَه ملوّثاً بدم ملفّق، علّه يخفّف من أحزانها، فالدم حقيقي ونافر وحارّ، والذئب ليس بريئاً هذه المرّة، بل ما زال يفتك بوحشيةٍ غير عابئ. وذلك الطفل الغزّاوي الصغير الذي رصدته الكاميرات مرتجفاً متروكاً مرتعباً، من دون أن يفهم سبب موت عائلته دفعة واحدة.
نموت قهرا وغضباً في زمن المذابح التي كشفت عن وجه الغرب، وهو يربّت ظهر الذئب، مستحسناً فعلته الشنعاء. يلتهمنا الحزن ونحن نشاهد الطفلة ذات الضفائر التي تبكي ندماً أمام جثمان شقيقتها المسجّى أمامها، لأنها كانت "تتمشكل معها". كيف لها أن تتوقّع أن أختها لن تتمشكل معها بعد الآن، لأنها ذهبت إلى الغياب والصمت النهائي. كيف لها أن تتخيّل مدى القسوة التي تبلغها الحياة، حين تُفجع روحُها من دون رأفة بسنوات عمرها الغضّ، وهي نفسها في مرمى الفتك والغدر في ظل هذا العراء، حيث لا نجاة ولا بصيص أمل. 
رغم كل تلك الأهوال، نعيش حياتنا ليس كالمعتاد بالضرورة. نصحو كل يوم في قلوبنا غصّة حين نتذكّر أن لا صبح في غزّة الذبيحة، الغارقة في العتمة. نرقب الصنابير تتدفّق مياهها غزيره فائضة، ونتذكّر أن أهلنا في غزّة ظمأى لشربة ماء عزّ وجودها تحت الحصار الآثم. نطهو وجباتنا ونتذكّر أنهم جوعى من دون لقمة تسند صمودهم الأسطوري. نشاهدهم من مقاعد المتفرّجين وهم يواجهون الموت، نبكي قهراً وعجزاً وقلّة حيلة ونخجل من أنفسنا، ومن واقعنا. ومن باب "فشّة الغلّ"، وأضعف الإيمان، نعبّر عن تضامننا، نشارك في المظاهرات وحملات التبرّعات ونعود إلى بيوتنا مساءً، بيوت آمنة لن تسقط أسقفها فوق رؤوسنا ونغضب. ليس لنا سوى أن نغضب ونحن الشهود على فضيحة العالم الديمقراطي الحرّ وعارِه! وهو يُنكرهم ويُمعن في تجاهل أوجاعهم ويصمّ آذانه عن صرخات استغاثتهم، ويتنصّل من دون أن يرفّ له جفن من مسؤولياته الأخلاقية والإنسانية ويغسل يديه، كما فعل بيلاطس البنطي، حين غسل يديه تبرّؤاً من دم المسيح، وكان بإمكانه الحيلولة دون صلبه، فقد قال له، حسب إنجيل يوحنا: "ألست تعلم أن لي سلطاناً أن أصلبك وسلطاناً أن أطلقك". غير أنه تواطأ مع اليهود، حين قالوا في إنجيل متّى: "دمه علينا وعلى أولادنا". 
يكرّر العالم الحرّ الحكاية ذاتها، غير مدركٍ أن لا شيء في الكون سيزيل آثار الدم المغدور الذي لطّخ  يديْه الآثمتين. أما نحن فسنعيش حياتنا يوماً بيوم، ولكن ليس كالمعتاد، أبداً ليس كالمعتاد.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.