بيدي لا بيدك يا إسرائيل

28 مايو 2015

من تدمر(فرانس برس)

+ الخط -
سألت صديقي الشاعر: كيف كان لقاؤك مع جلادك السجان، بعد ثلاث عشرة سنة من الجلد والتحطيم و"الإرغام على أكل جثث الفئران"، وبنت كبرت صبيةً، وصارت تخجل منه، كما لو أنه "أجنبي"؟ فقال: كان غريباً.. تعانقنا كعاشقين تحت ظلال الزيزفون. 
أظنّ أنّ السجناء يخرجون مصابين بالإخصاء الفعلي والإخصاء النفسي، على الأغلب. أحد الناجين ذكر أنهم طلبوا أول حلوله ضيفاً كريماً في بلاط الملكة أنيسة: ملكة تدمر الحالية، القيام بفعل غريب وعجيب، وهو الاستمناء فوراً وحالاً. ربما يكون هناك تأويل آخر للحالة السابقة، يقول بضرورة الغفران، فالضحية تحتاج إلى حنان السجان، والسجان يحتاج إلى غسل جرائمه بعناق عابر، و"تحقيق المصالحة الوطنية تحت سقف الوطن"، واستئصال حصاة الغفران من مثانة السجان في خمس دقائق بدون ألم. وأظنّ أنّ الضحية لو التقى بالجلاد في ظروف عادلة فسيتصرف على الحال السابق، فهو لا يصدق أنّ جلاده، يقبّله، ويصافحه، ويمكن أن يعتذر منه، وهو ما وقع لبطل رواية "شرق المتوسط" رجب، أو بطل "العسكري الأسود" ليوسف إدريس.
تذهب إحدى التحليلات، في سياق تذكّر تدمر بذي سلم، أنّ النظام يحاول الاستنجاد بالرأي العام العالمي، بإثارة غيرته على مقدس الآثار، وعلى "عِرض" زنوبيا الحجري التي يمكن لداعش سبيها، فالغرب يغار على شرف الآثار، مثل غيرة إيران على السيدة زينب.
أهم قصد من وراء هذه الكلمات هو القول إنّ النظام حوّل أكرم نخبة سورية إلى ضحايا وشهداء وآثار حية. سألت الصديق الشاعر، أيضاً، عن عقوبة للجلاد الأكبر، والتي يطمح إليها فكانت أغرب، إذ قال: لا أرغب أكثر من حبسه ثلاثة أيام، وهو بالبيجامة، في حوض زجاجي بساحة المرجة، ثم يرمي له القنبز (طعام الطير).
يفصل الباحث فاضل الربيعي بين الزباء وزنوبيا في كتابه "أبطال بلا تاريخ" الذي يمكن الرجوع إليه لمن يريد، إلا أن القصد من هذا المقال أنّ محاولات بعض نشطاء النظام ومثقفيه البكاء على آثار الحضارة التدمرية و"تزنيب" ملكة تدمر، والتذكير بلعنة زنوبيا، ومساواتها بلعنة الفراعنة، محاولة أخرى لتأسيس مقدسٍ لم يكن النظام يرغب به يوما، فلو شاء النظام "العلماني" أن يمدَّ جذورا للسوريين، بعيداً عن التاريخ الإسلامي "السني" الذي كان يعاديه.. لفعل، لكنه كان مشغولاً عبر سنوات الأمن والاستقرار بعبادة سيادة الرئيس وتقديسه وتوثينه، فالنظام أقام جسراً برياً لرحلات الشتاء والصيف بباصات "الدولة" إلى مقام الرئيس وضريحه، من كل فجٍ عميق، والتي أرادها كعبة جديدة.
أما زنوبيا النظام فيمكن أن تكون سلوى سعيد التي تفسخت جثتها في شقتها، ولم ينتبه لها أحد، أو المناضلة رغدة التي تقدس البوط، وتتباهى بسبِّ السيدة عائشة.. كان النظام دائما قادراً على تحويل رموز التاريخ إلى ممثلين، وهي طريقة أخرى لقتل الرمز تحت الضوء، نبدل صلاح الدين الأيوبي بجمال سليمان، وزنوبيا برغدة التي يمكن أن تمثل دور زوجة غدّارة كما في فيلم الإمبراطور، أو قد تمثل دور عاهرة في فيلم آخر. وأظن أنّ مارلون براندو هو الذي قال: "الممثل من كثرة تمثيله أدوارا ينسى شخصيته ويضيعها". ليس الغرض أن أقارن قول زنوبيا لعمرو بن عدي "بيدي لا بيديك يا عمرو"، وهي تجرع السم، بالأسد وهو يتجرع حليب الضباع: "بيدي سأدمر سورية لا بيدك يا إسرائيل"، إنما القول إنّ الذين نجوا من طوفان السياط، بعد خروجهم من تدمر بعد عقود؛ باتوا آثارا من عهد زنوبيا، يلزم أن تقع تحت وصاية اليونسكو.. مع الاعتذار.
الحجارة التدمرية إن نطقت؛ لن تذكر الماضي البعيد بحرف، لذهولها عن قسوة "أقذر من في الدنيا وأنذل بني البشر".
أحمد عمر
أحمد عمر
أحمد عمر
كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."
أحمد عمر