بيت بلا أب

31 اغسطس 2022

(أندريه لوت)

+ الخط -

في أتونٍ من الحزن الصامت، ألقيت حين وطئت ذلك البيت، البيت الذي فقد الأب، وأصبح بلا رجل، فقط هناك نساء صغيرات يقبعن بين جدران أربعة، ومن خلال هذه الزيارة القصيرة، تأكدت تماما أن الأشياء المادّية التي نعتقد أنها مجرّد جمادات تمتلك روحا، وأنها في هذا البيت كانت ميتةً مثل صاحب البيت.
فيما رحبت بي الأرملة الشابّة الثلاثينية المتّشحة بالسواد منذ سنوات، وذهبت لكي تعد مشروبا مثلجا في هذا الجو الحار، وتركتني أجلس صامتةً أنقل عينيّ بين الأشياء التي ماتت، أشياء كانت حيّة بلا شك وبلا أدنى ريبة، ولكنها اليوم لحقت بصاحبها، فهناك على قائم خشبي مرتفع بجوار باب البيت رأيت بروازا صغيرا من الخشب، من المفروض أن يعلق على مدخل البيت الخارجي، لأنه يحمل اسم صاحب البيت وصفته، ولكنه كان معلقا في الداخل، بهتت حروفه الذهبية. وفيما أجلتُ ببصري، اكتشفت كم عانت تلك الأشياء حتى لحقت بصاحبها.
للأب دائما وأبدا تلك اللمسات التي يضعها في كل ركنٍ من البيت، مثلما تكون للأم تلك اللمسات أيضا. ومع تكاملهما، يتكوّن البيت الذي تشعّ منه السعادة، وترتع فيه الراحة ويعمّ فيه السلام. ولكن هذا البيت الذي فقد لمسات الأب. كنت أرى قططا مذعورة، يخيّل لها أنها قد نجت وهي تقطع شارعا مزدحما، ولكنها، كلما تخيلتُ ذلك، يبدو كأن خطرا يترصّد بها، حتى وهي تتكوّر في مكانٍ بعيد، ولكن الأذى يلاحقها، مستغلا ضعفها، فباتت تنتفض، كل لحظة متوقعة أن تمتدّ يد قاسية نحوها.
من بعيد، كنت أسمع صوت قطرات ماءٍ تتسرّب من صنبورٍ معطوبٍ على الأرض، وتخيّلت أن هذا لم يكن سيحدُث في وجود الأب. وفيما رأيت أمامي عدة مقاعد قد تكسّرت قوائمها التي تسند الظهر، وأدركت تماما أن الأب لم يكن سيسمح لهذا الأمر الخطير أن يحدُث، وحين عادت الأم بأكواب العصير المثلجة، حدّثتني وهي ترى نظراتي المثبتة على القوائم المهشمة بأن الأب الراحل كان يقوم بكل الأعمال التي تتطلب عمالاً مهرة. وكان لديه صندوق كبير من الخشب، يحوي أدوات تصليح تناسب رب أسرةٍ لا يريد أن يتكلف مشقة استدعاء سبّاك أو نجّار وتحمل جشعه ولا مماطلته في موعد الحضور. وبعد وفاة الأب، حمل شقيقه هذا الصندوق، ونظر نظرة لن تنساها نحوها ونحو ابنتيها تعني أن هذا الصندوق يحتاج وجود رجل، وأنهن نساء قاصرات ضعيفات.
في بيتٍ بلا أب، تشعر بغصّة موت الحياة فيه، وتتسلّل الدموع من عيني الأم، وهي تروي حكايتها بعد موت زوجها شابّا في حادث سير، وكيف تحوّلت كأرملة شابة إلى غريمة ومنافسة غير متوقعة، ولكنها متربّصة لزوجات أشقائه، خوفا من أن يتزوّجها أحدهم، تطبيقا لما جرت عليه عادة الجاهلية، وكيف استطاعت زوجات أشقائه أن يوغلن صدر أمه عليها ففتحن عينيها على خطر داهم، وهو جواز حصول الحفيدتين اليتيمتين بعد وفاة الجد على نصيبٍ كبير من الميراث، تطبيقا لما يعرف قانونياً بالوصية الواجبة، وأشعلن حب المال والرغبة في التملك في قلب العجوز، فأصبحت تكيد لها بدلا من أن تحتضنها، وتحتضن حفيدتيها. وهكذا تحولت حياتهم، هي وصغيرتيها، إلى حرب باردة  مقسّمة إلى فصول من العذاب، لا تدري متى يبدأ أحد هذه الفصول، ولكنها تعرف أن الفصل الذي يليه سيكون أشدّ ظلما وأكثر عدوانا.
في البيت الذي ماتت فيه الحياة، وحيث تتحرّك كائنات مرتجفة متوجّسة من كل شيء، ترى الظلم الأكبر من ذوي القربى، وتكتشف أن الأب ورحيله والمصيبة التي تقع فوق رأس الزوجة الشابّة ومشوار الحياة الصعب المنتظر، حيث ستقوم بدور الأب والأم لأطفالها، لا يشفع ذلك كله لكي تأمن من ذوي القربى ونظرتهم إليها، وبأنها صائدة للأزواج ومقتنصة للثروات. ولذلك كان هذا البيت الذي زرته فعلا بلا حياة، حياة امتصّت بالتدريج من عروقٍ ما زالت تجترّ عذاب الغياب.

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.