"بورتريه" محمد كامل الخطيب
بعد توقف عن النشر، إحدى عشرة سنة؛ عاد المفكر التنويري الأديب السوري، محمد كامل الخطيب، إلينا بكتاب جديد، مهم، عنوانه "بورتريهات". ومع أن الكتاب صادر ورقياً عن منشورات 2021 في بيروت 2022، إلا أنه أتاح لكل من يهمه الأمر نسخة إلكترونية مجّانية، وهذا ليس جديداً على محمد، فهو، ومنذ بداياته، يوزّع كتبه الورقية الجديدة هدايا.
محمد من قرية الملاجة، ولكنه مولود في طرطوس، سنة 1948، أمضى سني طفولته في حي القلعة بالمدينة القديمة، يحمل شهادة الإجازة في الأدب العربي من جامعة دمشق، مولع بالفلسفة والفنون والآداب العربية والعالمية. كان يسكن قبواً معتماً في دمشق، تجاوره أرملةٌ عجوزٌ ما تنفكّ تردح غيابياً لقطتها الهاربة، وتستعين به للبحث عنها. وفي وقت لاحق انتقل إلى منزل فوق الأرض، في مشروع دمّر. عنده في البيت مكتبة ضخمة، قليلا ما تسأل عن كتابٍ لا تجده عنده، وهو ليس ممن يقتنون الكتب عبثاً، بل يقرأها، ويتفكّر فيها، ويستخرج نفائسها. أصدر أول مؤلفاته، مجموعة قصص "الأزمنة الحديثة" سنة 1974، وبقي يُصدر كتاباً أو كتابين كل سنة، إلى أن بدأت أحداث 2011، فتوقف. يمكن فهم هذا التوقف من خلال العودة إلى كتابه "وردة أم قنبلة" الصادر سنة 2006 الذي يلخصه بالقول إن سورية على أبواب تكوينٍ جديد، فإما أن تتكوّن على أساس علماني ديمقراطي، فتكون وردة المنطقة، أو أن تنفجر كقنبلة. ولأنها انفجرت، فلا بد أنه أصيب بالقهر، وبشيءٍ من الإحباط، ولا أظنه أقلع خلال هذه الحقبة عن الكتابة، بل عن النشر..
مع بداية الأحداث، باع محمد منزلَه في دمشق، وانتقل إلى الملاجة، كما أخبرني الصديق نبيه نبهان، واشترى هناك قطعة أرضٍ تطلّ على غابة محميةٍ طبيعية. والملاجة هي بلدة الشاعر محمد عمران الذي كان له تأثير إيجابي عليه، كما يظهر من عدة مواقف ورد ذكرها في الكتاب، أهمها تشجيعُه على أسلوب تفكير وكتابة لا يقبلها محيطُه الاجتماعي، وشيّد بيتاً عمادُه المكتبة، كالعادة .. وهناك راح يتأمل في الطبيعة، على طريقة أحد معلميه، رينيه ديكارت، ويدوّن بعض أفكاره على صفحته في "فيسبوك"، ومنها كانت هذه البورتريهات، ومشاريع كتب أخرى، أظنّها، ستظهر تباعاً.. والملاحظ، هنا، أنه يطلق على الملاجة اسم القرية الإسبانية، ويروي أنه دعي إلى عمل بحثي في إسبانيا، بالفعل، مع صديقيه صلاح فائق وعاصم الباشا، وقد اعتذرا، فلبّى الدعوة وحده، مشترطاً، بشهامة البرجوازي الصغير، أن تكون الإقامة هناك على حسابه الشخصي.
كتب محمد بورتريهاته مسحوراً، كما يقول، بتجربة نجيب محفوظ في كتابه "المرايا"، والمؤرّخ الروماني بلوتارك في كتابه "سير العظماء". ويبدو، في موضع آخر، بالغ الإعجاب بأبي حيان التوحيدي، والمصنّفين الكبار كالجاحظ، وأضيفُ أن كتاب "بورتريهات"، من حيث ترتيب أفكاره، وكثافتها، من أسلوب رسول حمزاتوف في كتابه "بلدي".
ليس محمّد ريفياً تماماً، فقد أمضى القسم الأكبر من حياته في دمشق. ومع ذلك تميز عن غيره من الكتَّاب، بالجانب الجميل من أخلاق الريفي، فشخصيّته شديدة الوضوح، واللطف، والتسامح، ولأنه لا يمتلك شيئاً يخاف أن يخسره، تراه شجاعاً، عند اللزوم، صلباً في الدفاع عن مواقفه، وربما كان هذا سرّ فتح أبواب العمل له في صحيفة الثورة أولاً، ثم في وزارة الثقافة التي كان يحلم أن يعمل فيها إذا أخفق مشروع سفرِه إلى أميركا، ثم فرنسا. وفي الوزارة، استطاع، بجوار المفكر أنطون مقدسي، ودعم الوزيرة نجاح العطّار غير المحدود، وبعد مناقشةٍ مع سعد الله ونوس وفيصل درّاج، أن يطلق مشروع سلسلة كتب حوارات عصر النهضة. وكان هذا، بزعمي، عملاً كبيراً، فقبل ذلك كان حصول القارئ على تلك الكتب شبه مستحيل، وأصبح بإمكانه اقتناؤها بسعر رمزي.