عمر حجّو وإمبراطورية المجانين
إمشي عِدِلْ يحتارْ عدوكْ فيكْ. مثل شعبي مصري، كنّا نسمعه في حوارات الأفلام السينمائية المصرية، له دلالات اجتماعية، وإنسانية، تضعنا أمام تساؤليْن: أولهما؛ لماذا يحتار الناس في أمر مَن يكون صادقاً، ومستقيماً، وواضحاً (عِدِلْ)؟ ألا تعني تلكم الحيرة أنهم اعتادوا الزيف، والغموض، والمراوغة؟ وثانيهما؛ لماذا يكون أناسٌ من بلدنا أعداءنا؟ تُعيدنا هذه المسألة بالذاكرة إلى أوائل السبعينيات، عندما ظهر، في دمشق، نوع جديد من المسرح، اسمُه مسرح الشوك، يعتمد لوحاتٍ مسرحيةً قصيرة، مكثفة، شديدة التأثير، وفي إحداها؛ يظهر على المسرح رجلٌ وامرأة، يبكيان بحرقة. يدخل شخص ثالث ويسألهما عن السبب، وبصعوبة بالغة يقول الرجل: ابننا. ... يطلق الرجل عليهما وابلاً من الأسئلة عن ابنهما: ما به؟ هل أصابَه مكروه؟ هل يعاني من مرض؟ هل هو ضائع؟ مسافر؟ وهما يهزّان رأسيهما إلى الأعلى للنفي، إلى أن تتمكّن المرأة الباكية بحرقة من لفظ كلمة "معلّمه"، فيسألها: ماذا فعل معلّمه؟ هل رفعه فلقة وأورم قدميْه؟ طرده من الفصل؟ وبّخه؟ أهانه؟ وهكذا حتى نفهم، نحن المشاهدين، خلاصة المعضلة، أن المعلم أجرى لابنهما امتحاناً تحريرياً، ولأنه صديقٌ لهما، فقد أخبرهما أنه محتارٌ في أمر الولد، هل يضع له علامة أكثر مما يستحقّ، أم أقلّ مما يستحق؟ يقول الرجل: القصة بسيطة، ليضع له العلامة التي يستحقّها. ... فيندهش الرجل والمرأة، ويتوقفان عن البكاء، ويفرحان، ويُخبران الرجل بأن هذا الأمر لم يخطر ببال أيٍّ منهما، ولا حتى ببال المعلم.
تحدّثت نوال السعداوي عن هذا الوضع الشائه، في مقابلة تلفزيونية، قائلةً إن مجتمعنا قد زُيِّفَ وعيُه إلى درجة أننا أصبحنا نخاف من ظهور إنسان صادق بيننا، فإذا ظهر ترانا نجفل منه، ونهمّ بقتله، أو نعلن عليه الحرب... وقد عبّر الأديب الساخر محمد الماغوط عن غربة الإنسان الموهوب في مجتمعنا، عندما أتاه خبر طعن الروائي نجيب محفوظ بالسكين، سنة 1995، فقال: لا توجد موهبة عظيمة يمكن أن تمرّ من دون عقاب.
ليس الفنان عمر حجّو كاتباً، أو مؤلفاً، أو "سيناريست"، بل كان دائم التفكير في إبداعات مسرحية، أو سينمائية، أو تلفزيونية، أو إذاعية. ومعلوم أنه كان مبدع فكرة مسرح الشوك، سنة 1969. وخلال مشاركته في تمثيل مسلسل، روى لصحبه حكاية سكّير حلبي ظريف، أيام الانتداب الفرنسي، كان يخرُج من الخمّارة، ويعبر شارع بارون وهو يغنّي، بشكل كاريكاتيري: لولولو، لولالي، الله محيي شواربكِ يا جمجمة خاروفة؛ ... فكانت الأغنية التي لحّنها حسام تحسين بيك وغنّاها دريد لحام في إحدى حلقات مسلسل صح النوم (1972)، ثم اشتُهرت، وتحوّلت إلى أغنية وطنية تذاع في كل المناسبات.
ومن ذكرياتٍ تجمع كاتب هذه السطور بعمر حجّو، أنه، في إحدى سفراتنا إلى دمشق، أتى على ذكر حديقة الهايد بارك اللندنية، أنها أصبحت مكاناً للتعبير الحرّ عن الأفكار، من دون أية رقابة، أي أنها رمز للديمقراطية. حسناً؛ الآن، إذا خطر لأحدنا أن يقول ما يحلو له، كما في "الهايد بارك"، ماذا نصنّفه؟ قلت: مجنون. قال: ها هه. هذا لبّ المسألة، يعني أن الديمقراطية الحقيقية، في بلادنا، لا تجدها إلا في مشفى المجانين.
ولم يكن أبو الليث ممن يتحدّثون في أمر ويتركونه، فقد طوّر الفكرة بأننا يمكن أن نزور مشفى المجانين، معاً، ثم نؤلف مسرحية بعنوان "إمبراطورية المجانين الديمقراطية". ووصلنا القول بالفعل، وأجرينا زياراتٍ مكرّرة لمشفى الأمراض العقلية قرب قرية "دويرينة"، والتقينا فيه مجانين غير خطرين، مصنفين ضمن خانة "جنون العظمة"، كان أحدهم مشروع عالم فيزياء، وآخر يعتقد أنه ملك الكون، والحياة ظلمته، وأنه سيجمع عدداً كبيراً من الرجال والنساء ويطالبهم بحقوقه.