بوتين يعتق ألمانيا من ديونها

04 فبراير 2023
+ الخط -

"الدبابات الألمانية تعود إلينا بعد 80 عاماً". بهذه العبارة المكثّفة، اختصر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جوهر علاقته بألمانيا، في خطابه بمناسبة الذكرى الـ80 لمعركة ستالينغراد (فولغوغراد حالياً) بين الجيشين السوفييتي والنازي الألماني، والتي أدّى انتصار موسكو فيها إلى تعبيد طريق العالمَين "المنعزل خلف الستار الحديدي" و"الحرّ" باتجاه برلين واقتلاع النازية.

منح بوتين بُعداً قومياً لحربه في أوكرانيا، يتجاوز الإطار الفعلي، وهو حقيقة اقتحامه بلادا وأرضا لا تعود إليه، وفق المواثيق الدولية التي وافقت عليها روسيا بنفسها بعد استقلالها عن الاتحاد السوفييتي في عام 1991. اختزل بوتين نمطيةً لا يريد لها أن تخرج من الذاكرة الجماعية للأجيال الروسية السابقة، وينوي زرعها في الأجيال الآتية: ليست أوكرانيا ولا الولايات المتحدة. إنها ألمانيا أدولف هتلر، مهما كان حاكمها. لم يهتم لحقيقة أن التشارك الاقتصادي بين الألمان والروس، خصوصاً في مرحلة ما بعد الحرب الباردة (1947 ـ 1991)، واتحاد الألمانيتين الشرقية والغربية (1990)، من بين الأكبر، لا في أوروبا فحسب، بل في العالم.

بوتين نفسه، حين التقى رؤساء رابطة الدول المستقلة (أرمينيا، أذربيجان، بيلاروسيا، كازاخستان، قرغيزستان، تركمانستان، طاجكستان)، في مسقط رأسه في سانت بطرسبرغ، في أواخر شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، كان يتحدّث عبر مذياع ألماني الصنع. وأيضاً، في مطلع ديسمبر نفسه، قاد بوتين سيارةً من صنع ألماني، لتفقّد أعمال الترميم في جسر القرم (كيرتش)، الذي تعرّض لهجوم في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. بوتين الذي اختبر ألمانيا الشرقية في إرهاصاتها الأخيرة، التي واكبت الموت التدريجي للاتحاد السوفييتي في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، لم يجد حرجاً في تخصيص خطابه عن ألمانيا في فولغوغراد، والتذكير بالمآسي النازية التي ارتكبها جيشٌ ألماني بقيادة نمساوية.

لم يتطرّق بوتين إلى غيرهارد شرودر صديقه، ولا إلى أنجيلا ميركل التي لم تكن عدوته، بل اخترق ذلك كله للوصول إلى أولاف شولتز، الذي سبق أن هاجم "حلف شمال الأطلسي الإمبريالي" أيام شبابه في ثمانينيات القرن الماضي. تناسى بوتين أن كل من سكن ويسكن مبنى المستشارية في العاصمة الألمانية، بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، ظلّ مهجوساً بأمرين: الذنب الرسمي الألماني تجاه العالم بسبب هذه الحرب، ومحاولة التصالح مع العالم من بوابة اقتصادية. وحظيت روسيا تحديداً بالاهتمام الأكبر لدى الألمان.

كان ينقص بوتين أن يتوجّه باللغة الألمانية، التي يجيدها، إلى شولتز، والقول له: "إنك هتلر جديد"، عالماً أن شولتز نفسه أبعد ما يكون عن النازية أو عن أي عقيدةٍ يمينيّة متطرّفة. هنا السؤال، هل فعلاً ستقلب دبّابات ليوبارد الموازين الميدانية في أوكرانيا، وتسمح لجيشها في تحرير أراضيها من الروس؟ ربما، لا أحد يعلم كيف ستسير معارك الربيع، ولا أحد يدري كيف ستنتهي، لكن من خلال كلمات بوتين، يُمكن التأكيد أن جيشه سيعاني أكثر بكثير مما يعاني الآن. ومع إدراكه أن التراجع ليس خياراً، بل متروكاً لقدرٍ ما، فإن اختياره ألمانيا منصةً لتصويب هجومه عليها، لا يتعلق بستالينغراد، بل بفكرة أن هذه البلاد القابعة في الوسط الأوروبي تتّجه إلى تعميق مصالحتها مع العالم وإيفاء ديونها المجتمعية العالقة في "وكر الذئب"، على حساب روسيا، التي تملك حلفاء يخجلون بها، وأعداء ينتظرون جثتها على ضفة النهر.

هل يُمكن استرجاع الماضي وتكراره والخروج بنتيجةٍ مغايرة؟ أثبتت مجريات نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية أن هذا العالم غير مستعدٍّ للخروج من هيكليته، رغم رغبته في إعادة صياغته، بما يكفل استمراريته عقوداً جديدة، لا استئصاله واستبداله بنظامٍ آخر، جميل قولاً ومجهول فعلاً. إصرار الرئيس الروسي على الذهاب بعيداً في حربه لن ينصره على أوكرانيا قبل غيرها، بل سيُسرّع تثبيت ركائز النظام العالمي الحالي، ويحرّر ألمانيا من ديونها.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".